رحل الاحتلال.. وعاد أصحاب الأرض

وقف إياد الششتري (51 عامًا) على حافة الطريق حيث كان بيته قائمًا ذات يوم في مدينة الزهراء، وسط قطاع غزة. كان الهواء محمّلًا بالغبار والذكريات، وأمامه امتدّ فراغٌ قاسٍ، كأن الأرض قد ابتلعته هو وكل ما بناه بيديه.

لم يكن هناك سوى بقايا إسمنت مسحوق وقطع خشب متناثرة، لا شيء يشبه منزله الذي احتضن أحلامه وأيامه.

غرس الششتري نظره في الركام، وقال لـ 'فلسطين أون لاين': 'هذا المكان لم يكن مجرد بيت... كان حياتي كلها. هنا كبرتُ، وهنا كبّرتُ أولادي. أين ذهب كل هذا؟ كيف تُزال عشرون سنة من التعب بجرافة واحدة؟'.

أخذ بيديه حفنة من التراب، داس على بقايا بلاط كان يومًا ما أرض غرفة المعيشة، ومرر أصابعه فوق قطعة زجاج مشروخة، ربما كانت نافذة غرفة ابنته. كان ينظر حوله، كأنه ينتظر أن ينبثق الجدار من الأرض، أن تعود الغرف إلى أماكنها، أن يسمع صوت ضحكات أبنائه تتردد بين الجدران.

نظر إلى زوجته التي كانت واقفة خلفه، عيناها معلّقتان بالأفق، صامتة كأنها تحاول استيعاب الكارثة. أشار بيده إلى الفراغ أمامه وقال: 'كان هنا بابنا، ذلك الباب الأزرق الذي أصرّت عليه زوجتي رغم أني كنت أفضّل لونًا آخر. كنا نعود إليه، مهما طال الغياب... أما الآن، فإلى أين نعود؟'.

على طول محور نتساريم، لم يكن الششتري وحده. عشرات الرجال والنساء والأطفال وقفوا فوق الخراب، يبحثون بين الركام عن أي أثر لحياتهم القديمة. بعضهم وجد صورًا ممزقة، آخرون عثروا على آنية مكسورة، وآخرون لم يجدوا شيئًا سوى الفراغ.

كان المشهد أشبه بمقبرة، لكنها بلا شواهد. فقط أرواح المنازل ترفرف فوق الخراب، تشهد على مأساة لا يمكن محوها بالجرافات، مهما كانت قوتها.

وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، أمس، استكمال انسحابه من محور نتساريم في قطاع غزة، وذلك في إطار تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس.

وأخلت قوات الاحتلال مواقعها وسحبت المعدات العسكرية من المنطقة، بعد أكثر من عام وثلاثة أشهر من سيطرتها على هذا المحور خلال العدوان الدموي على القطاع.

العودة إلى التراب

على أطراف حي الزيتون، حيث كانت منازل الفلسطينيين تقف كشهود على العمر والذاكرة، عادت أم وسيم العسلي تحمل أطفالها الثلاثة إلى المكان الذي كان يومًا ما بيتها. لم تكن تعرف ما ستجده، لكنها كانت تردد لنفسها طوال الطريق: 'المهم أني سأعود.. حتى لو لم يبقَ لي سوى التراب'.

قالت العسلي، التي فقدت زوجها في غارة إسرائيلية خلال الحرب، لـ'فلسطين أون لاين': 'حين وصلت، لم يكن هناك بيت، ولا جدران، ولا باب. الأرض التي احتضنت ذكرياتنا صارت مسطحة'.

بحثت بين الركام عن أثر، عن زاوية جدار، عن بقعة حائط كانت تستند إليها حين كان زوجها يحدثها عن المستقبل الذي لم يأتِ.

احتضنت كفَّي طفلتها الصغيرة وقالت، والدمع يشع في عينيها: 'الاحتلال هدم حجارتنا، لكنه لم يهدم إرادتنا. هدموا بيوتنا، لكنهم لم يستطيعوا أن يبقوا هنا. هذه أرضنا، عدنا إليها رغمًا عنهم، وسنبنيها من جديد'.

صمتت قليلًا ثم نظرت إلى أطفالها وقالت بحزم: 'أبوكُم استشهد ليبقى لنا وطن، ليبقى لنا حق، ولو كان هنا الآن لقال لكم: رأيتم؟ هم رحلوا، ونحن عدنا'.

على امتداد 'محور نتساريم'، كان الفلسطينيون يعودون كما تعود الجذور إلى الأرض، كأنهم يعلنون أن التاريخ لا يُمحى، وأن البيوت تُبنى من جديد، حتى لو تهدمت ألف مرة. كانت أم وسيم تمشي فوق الحجارة المبعثرة، تحفر بيدها في التراب وكأنها تريد أن تلمس روح بيتها المدفون تحت الركام.

ثم وقفت وقالت بصوت حمل نبرة انتصار رغم الحزن: 'لو بقيت (إسرائيل) قوية، لما انسحبت. لو انتصروا، لما تركوا هذا المكان. انسحبوا لأنهم فشلوا، لأن مقاومتنا لم تسمح لهم بالبقاء، لأن هذه الأرض لا تقبل الغرباء'.

يُذكر أن محور نتساريم يمتد على طول حوالي 6.5 كيلومترات جنوب مدينة غزة، وكان يُستخدم من قبل جيش الاحتلال لتقسيم القطاع والتحكم في حركة الفلسطينيين بين شماله وجنوبه.