اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٨ تموز ٢٠٢٥
كان محمود أبو ناجي، الأربعيني الغزي، يتنقل بين البسطات القليلة المتبقية في سوق السمك بميناء غزة، ممسكًا بورقة نقدية من فئة 50 شيكلًا، يضغط عليها بأصابعه كأنها كنز، وينظر إلى الأسماك كما لو كان يتأمل مشهدًا من حلم بعيد.
لم يكن يطلب الكثير، فقط قطعة لحم، أي لحم، لزوجته التي وضعت مولودها منذ خمسة أيام، وبدأ جسدها يذبل من الإرهاق وسوء التغذية. يقول لصحيفة 'فلسطين' بأسى: 'منذ أن أنجبت زوجتي، لم تتذوق طعامًا يحتوي على بروتين حقيقي. لا دجاج، لا لحم، حتى البيض مفقود. لم أعد أعرف كيف أساعدها على استعادة صحتها'.
منذ مارس الماضي، تغلق سلطات الاحتلال المعابر بالكامل أمام دخول الغذاء والمساعدات، حتى باتت قطعة لحم حلمًا بعيد المنال لمعظم سكان القطاع.
وبينما كانت أكياس الثلج الذائب تسيل تحت صناديق السمك، اقترب أبو ناجي من أحد الباعة وسأل عن كيلو سردين 'بذرة' – ذلك النوع الشعبي الذي كان يملأ موائد الغزيين في الأيام العادية.
أجابه البائع دون أن يرفع رأسه: 'ثمانون شيكلًا للكيلو، وإذا لم يعجبك… ابحث عن غيري'.
وقف الرجل مذهولًا، وضحك بمرارة لصحيفة 'فلسطين': 'كان الكيلو يُباع بشيكل واحد قبل الحرب. كنا نشتري ثلاثة كيلو بعين مغمضة. الآن صار طعامًا للأغنياء'.
'البحر أمامنا… لكن السمك لم يعد لنا'، يتمتم أبو ناجي وهو يغادر دون أن يشتري شيئًا، بعد أن شاهد بائعًا آخر يعرض سمك دنيس متوسط الحجم بـ500 شيكل للكيلو.
في غزة المحاصرة، حيث دمّرت الحرب كل مقومات الحياة الإنتاجية، وتسببّت بانهيار النظام الغذائي، تحوّلت الأسماك من غذاء شعبي إلى سلعة فاخرة.
تراجع الصيد البحري بشكل كبير، إذ بات الخروج إلى البحر مخاطرة حقيقية بسبب القصف، ولغياب الوقود الضروري لتشغيل قوارب الصيادين.
عاد أبو ناجي إلى خيمته بخطى مثقلة، وفي يده كيس فيه عدس. 'لا أريد أن أخبر زوجتي أنني لم أجد سمكًا. سأقول لها إنه لم يكن طازجًا، ونؤجل الأمر إلى الغد'، قالها وهو ينظر إلى البحر وكأنه يعاتبه.
أطفال يحلمون بلقمة لحم
لم يكن حلم أطفال سامي الجرو (37 عامًا) كبيرًا، فقط قطعة لحم تُطهى على النار، أو صدر دجاج يُسكب فوق الأرز، أو حتى سمكة تُشوى أمام أعينهم الجائعة.
يقول الجرو، وهو أب لأربعة أطفال، ويعيش في أحد مخيمات الإيواء غرب غزة، لـ'فلسطين': 'يسألني أطفالي كل يوم: أبي، متى سنأكل لحمًا؟ حتى الصغار منهم لم يعودوا يعرفون طعمه. لا دجاج، لا لحم، لا بيض… فقررت أن أشتري لهم سمكًا، ربما أُفرحهم'.
لكن رحلته إلى سوق السمك لم تحمل الفرح، بل الصدمة: 'دخلت السوق وأنا أحمل أملي بين يدي، لكن الأسعار جعلتني أشعر وكأنني في سوق أوروبي، لا في غزة. السردين بثمانين شيكلًا، البوري بـ350، والدنيس بـ450!' يقولها وهو يلوّح بيده بانفعال.
وما زاد الطين بلّة، أن بعض الصيادين رفضوا البيع له لأنه لا يملك مالًا نقديًا: 'أملك رصيدًا في التطبيق البنكي، لكنهم يريدون الدفع نقدًا فقط. سألت أحدهم: لماذا؟ قال: هكذا نريد! طيب لماذا؟ إلى أين نذهب بهذا الظلم؟'
يستغرب الجرو من غلاء الأسعار رغم غياب مبررات الكلفة الحقيقية، ويتهم بعض الصيادين بالانضمام إلى موجة الاحتكار التي تضرب غزة منذ شهور: 'معظمهم يستخدمون مراكب مجاديف، لا تحتاج إلى وقود ولا محركات، فلماذا الغلاء؟ حتى البحر صار فيه تجار أزمة'.
في خيمته، قفز أطفاله فرحًا عندما رأوا أباهم يحمل كيسًا صغيرًا، ظنوه سمكًا. لكنه لم يكن سوى فاصولياء.
'لم أستطع أن أخبرهم بالحقيقة. قلت لهم إن السمك لم يصل السوق اليوم. ربما غدًا… أو بعد غد'، قال وهو ينظر إلى البحر القريب من خيمته، 'البحر قريب… لكن الشبع بعيد'.
لقمة عيش مغمسة بالدم
في محاولة للحد من انفلات الأسعار، بدأت اللجان الأمنية التابعة لوحدة 'سهم'، المنتشرة في المناطق السكنية بغزة، باتخاذ إجراءات ميدانية لضبط سوق السمك ومنع التلاعب بقوت الناس.
وأصدرت هذه اللجان تحذيرات مباشرة للصيادين والتجار، مطالبة بعدم التمادي في رفع الأسعار بما يتجاوز قدرة الناس الشرائية، في ظل ما وصفته بـ'المجاعة الزاحفة' التي تهدد أكثر من مليوني إنسان في القطاع المحاصر.
يقول الصياد خليل أبو ريالة، الذي يخرج إلى البحر ثلاث مرات أسبوعيًا على متن مركب صغير، لصحيفة 'فلسطين': 'نحن كصيادين نخاطر فعليًا بحياتنا كل مرة ننزل فيها إلى البحر. الزوارق الحربية الإسرائيلية تطاردنا، وأحيانًا تطلق النار علينا حتى ونحن قريبون من الشاطئ'.
ويضيف: 'الوقود غالٍ جدًا. نشتري اللتر بـ45 شيكلًا من السوق السوداء. الرحلة الواحدة قد تكلف أكثر من 300 شيكل للوقود فقط، ناهيك عن تكاليف الشبك والمستلزمات الأخرى'.
ومع ذلك، لا يبرّر أبو ريالة الارتفاع الجنوني للأسعار، ويقر بأن هناك من استغل الأزمة لمراكمة الأرباح: 'بصراحة، هناك مبالغة كبيرة في الأسعار. ليس كل الصيادين يستخدمون المحركات، هناك من يستخدم المجاديف ولا يحتاج وقودًا، ومع ذلك يرفعون الأسعار بشكل خيالي'.
ويختم بقوله: 'الاحتكار موجود، وهناك من يصطاد الأزمة لا السمك. والذي يدفع الثمن هو المواطن الفقير، الذي لا يستطيع شراء حتى سردينة لأطفاله'.