اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الكاتب:
معمر يوسف العويوي
تعيش مدينة الخليل حالة فريدة في الجغرافيا الفلسطينية، فهي المدينة التي تختزل المشهد الوطني كله في مساحتها الضيقة. مدينةٌ محاصَرة بالحواجز، مثقلة بالبوابات الحديدية، ومقطعة الأوصال منذ عقود، لكنها في كل صباح تُعيد اختراع الصمود وتمنح الوطن معنى البقاء.
منذ مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994، تحولت الخليل إلى نموذج للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية التي تستهدف المكان والإنسان معًا. فإغلاق شارع الشهداء، الذي كان يومًا شريان الحياة للمدينة وسوقها التجاري الرئيسي، قسم الخليل إلى شطرين: شماليّ نابض بالحياة وجنوبيّ مقيّد بالأسلاك والحواجز. ذلك الشارع الذي كان يعجّ بالحركة والضجيج، أصبح رمزًا للعزلة المفروضة قسرًا، وعنوانًا لظلمٍ طويلٍ لم تفلح السنوات في كسره.
في محيط البلدة القديمة، تمتد سبع مناطق مغلقة منذ سنوات، لا يُسمح للفلسطينيين بدخولها إلا بتصاريح خاصة، وكأنها جزر معزولة داخل مدينة محتلة. خلف تلك البوابات يعيش عشرات العائلات الفلسطينية في صمتٍ ثقيل، يختبرون يوميًا معنى البقاء تحت الحصار. أطفالٌ يقطعون طريق المدرسة عبر البوابات الإلكترونية، ونساءٌ ينتظرن تفتيش الجنود، ورجالٌ تُقيّد أرزاقهم بمزاج الحاجز العسكري.
ومع كل فجر جديد، يواجه أهالي الخليل رعبًا يتجدد على الحواجز المنتشرة عند مداخل المدينة. هناك، تُقاس حياة الناس بقرار جندي، ويتحوّل الانتظار إلى شكلٍ من أشكال المقاومة اليومية. ومع ذلك، يصرّ 'الخلايلة' على البقاء، على فتح محالهم، الذهاب إلى مدارسهم، وزراعة أرضهم تحت أنظار القناصة والمستوطنين، وكأنهم يعلنون للعالم أن البقاء في الخليل فعل مقاومة لا يقل عن المواجهة في الميدان.
اليوم، ومع تصاعد جرائم المستوطنين، تلقّت المدينة صفعة جديدة حين أقدم أحد المستوطنين على قتل مواطن فلسطيني بدمٍ بارد، في جريمة متعمّدة تُظهر أن الاحتلال لم يعد بحاجة إلى ذرائع. فالمستوطن بات الجندي، والحامي بات القاتل، والحكومة الإسرائيلية تحوّلت إلى راعٍ رسمي للعنف المنظم ضد الفلسطينيين. ما جرى في الخليل ليس حادثًا منفصلًا، بل مؤشر على مرحلة جديدة عنوانها: “المستوطن هو سلاح الاحتلال”
ورغم كل محاولات العزل، تبقى الخليل قلب الجنوب الفلسطيني، ومركزًا اقتصاديًا وتاريخيًا لا يمكن محوه. فأسواقها العتيقة ما زالت تفتح أبوابها، وأصوات المآذن لا تزال تشق الصمت الحديدي لتقول إن المدينة حيّة. وفي وجه الإغلاق والبطش، يقف أهلها كحراسٍ للهوية، يرابطون في بيوتهم ومحالّهم، يحفظون التاريخ بالحضور
اليومي، لا بالشعارات.
الخليل اليوم ليست مجرد مدينة محاصَرة، بل رمزٌ لمعنى الصمود الفلسطيني في أكثر صوره تعقيدًا وإنسانية. فهي تعلّمنا أن الاحتلال يمكنه أن يغلق الشوارع، لكنه لا يستطيع أن يغلق الذاكرة. يمكنه أن يقيم الحواجز، لكنه لا يملك مفاتيح القلوب التي أغلقت عليه أبوابها وفتحت للوطن نوافذ الأمل.
في الخليل، يتجاور الحزن بالكرامة، والعزلة بالإصرار، والقيود بالحرية الداخلية التي لا تُقهر. إنها المدينة التي ما زالت تقف، رغم كل شيء، لتقول للعالم إن الصمود الفلسطيني ليس شعارًا سياسيًا، بل حياةٌ تُعاش يوميًا بين الحواجز، وتكبر بالإرادة والإيمان.

























































