اخبار فلسطين
موقع كل يوم -شبكة راية الإعلامية
نشر بتاريخ: ٣ حزيران ٢٠٢٥
راية - أماني شحادة / غزة
في زاوية ضيقة من حوش منزل متهالك جنوب قطاع غزة، تجلس 'أغصان' القريبة من لحظة الولادة، تنفخ على جمرة ضعيفة بين حجارة متراصة، تحاول إشعال النار لتحضير وجبة بسيطة.
الدخان يتسلل إلى عينيها المنهكتين، يلسع صدرها ويزيد من اختناقها، لكن لا خيار آخر.
تتلمس بطنها المنتفخة، وتقول بصوت خافت يكاد يخنقه الدخان: 'أنا بالشهر السادس، وبدل ما أرتاح، بختنق بالنار طول اليوم. صدري مجروح'.
كلمات قليلة تختصر وجع أمٍ تخشى على جنينها أكثر مما تخشى على نفسها.
منذ بدأت الحرب، بات غاز الطهي حلمًا، والكهرباء ذكرى. ومع شح الوقود، أصبحت النساء في غزة أمام خيار واحد: العودة للنار والحطب، في ظل الحصار المشدد ومنع الاحتلال إدخال المواد الأساسية. لكن هذا 'الرجوع البدائي' لم يكن بلا ثمن.
'تسنيم'، ثلاثينية، أصابها دخان الحطب بحساسية مزمنة في العيون والأنف، فوق ما تركته جائحة كورونا من آثار. تقول: 'صرت أعطس كل دقيقة، وأنفي بيسيل، وصداع ما بيروح. الطبيب قال لي ابعدي عن الدخان، بس كيف؟ النار صارت هي الوسيلة الوحيدة لنطبخ'.
ومثلها 'سحر'، أم لطفلين، تشكو من ضيق التنفس وتفاقم حساسية الأنف مع كل يوم. أكثر ما يحزنها أن حتى ملابسها القليلة أصبحت سوداء من 'الشحبار' بعد أن دُمّر بيتها ولم يتبقَ لها إلا القليل.
أما 'فداء'، الشابة التي كانت تتعامل مع حساسية موسمية، فقد وجدت نفسها تغالب نوبات ضيق التنفس لتتمكن من إشعال النار وإعداد الطعام:
تقول فداء: 'بتعب كثير، بس مجبورين. لو ما ولّعنا، ما في شي نأكله'.
وتستخدم النساء في غزة كل ما يمكن حرقه لإشعال النار: حطب، كرتون، بلاستيك، قماش... لا أقنعة، ولا تهوية، ولا حتى نوافذ مفتوحة.
تقول 'رانيا' بصوت خافت كأنه خارج من صدر محترق: 'بنشّم بلاستيك ونايلون، الأسبوع الماضي حنجرتي انهارت، والرئتين تعبوا وصوتي راح'.
الحرب لم تُبقِ شيئًا على حاله، حتى وجوه النساء تغيّرت. 'سها'، فتاة صغيرة تساعد أمها على الطهي، تقول مازحة بحزن: 'بعد الحرب بدنا دكاترة وكوافير وصالون، بشرتنا تعبت وامتلأت بالبقع من حرارة النار والدخان'.
وراء كل قدر يغلي فوق نار دخانية سوداء، هناك جسد امرأة يتآكل بهدوء. أصوات السعال لا تتوقف، وبعض النساء لا يذقن طعم النوم بسبب ضيق التنفس، وعيونهن احمرّت من الحرقة والغبار.
الدواء مفقود، والمشافي شبه مدمرة، والأولوية دائمًا للجرحى والمصابين.
في غزة، حتى النار أصبحت معركة يومية، لكنها لا تُخاض بالسلاح، بل بصدرٍ عارٍ وروحٍ منهكة. النساء هنا لا يطبخن فقط... إنهن يحترقن ببطء.