ترامب .. استراتيجية الجنون !

الكاتب: أكرم عطا الله

أثناء المفاوضات الأميركية مع الثوار الفيتناميين وتصلبهم المتكئ على ميدان كان لمقاتلي الفيتكونج اليد العليا فيه، قال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمستشاره للأمن القومي هنري كسينجر: «عليك أن تخبر المفاوضين الفيتناميين الشماليين أن نيكسون مجنون» هكذا في لحظة أزمة يفضل رئيس أميركي أن يقدم نفسه لخصمه العنيد.

أما دونالد ترامب فهو صاحب مدرسة جديدة في السياسة هي «مدرسة الجنون» التي تجعل الخصوم والأصدقاء مضطرين لتقديم تنازلات خوفاً من انفعال الرئيس وغضبه، وخصوصاً أنه الرجل الذي تنطبق عليه مواصفات من يعالجهم علم النفس في تعريفه الأكاديمي وهم «الأشخاص الذين يصعب التنبؤ بسلوكهم»، هذا هو ترامب تماماً الرجل الذي لا يكف عن المفاجآت، ولا يكف عن تغيير مواقفه بمزاجية عالية والذي لا يعرف حتى أقرب مقربيه تقدير ماذا سيفعل أو سيقول الرئيس.

على امتداد التجربة الإنسانية كان هناك الكثير من القادة المختلين ولم يكن التاريخ يتلون بالدم، كان دوماً تحت حكم الأسوياء والمحترمين لأن هؤلاء يخجلون من المنافسة، أما غير الأسوياء فلديهم من الثقة بأنفسهم ما يجعلهم ينافسون تُحركهم شهية التحكم بالآخرين أو الاعتقاد بعظمتهم باعتبارهم قادرين على تغيير التاريخ، وآخرهم نتنياهو الذي «أرسله الرب بمهمة روحانية» هكذا يقول وأغلب الظن أنه مقتنع مثل جميعهم بما يقول.

بسياسة الجنون التي اتبعها فقد تمكن ترامب خلال ثمانية أشهر من ابتزاز العالم، حصل على الأموال من الخليج وجعل أوروبا ترتعد خوفاً وتقطع من لحمها الحي لترفع موازنة حلف الناتو، وأدخلها في حالة استنفار دائم منذ أول تصريح يخص أوكرانيا، وتصرف مثل المجانين مع فلاديمير زيلينسكي خارجاً عن الأعراف الدبلوماسية، فقد أهانه في البيت الأبيض وعلق على البذلة التي يرتديها ولم يتصور أحد أن يهبط إلى هذا المستوى لكنه يبدو مرتاحاً لهذه الصورة التي يتم تصديرها عنه فقد ثبتت نجاعتها في تحقيق إنجازات .

يضرب إيران في مشروعها الذي يمثل درة التاج حيث المفاعلات النووية، وفي اليوم التالي يشكرها على امتلاكها القدرة والشجاعة والذكاء لوقف إطلاق النار، يضغط من أجل هدنة لوقف إطلاق النار في غزة ثم يشجع ويدعم نتنياهو على خرقها، ينتقد بوتين بشدة حد التهديد ويلتقي به ليغدق ما يكفي من المديح، يتحدث كثيراً عن وقف الحروب لكنه يدعم أسوأها وأكثرها وحشية في غزة، يتشاور مع نتنياهو لضرب الدوحة ويهاتف أميرها مستنكراً، والغريب أنه لا يرى تناقضاً في كل هذا.

يصعب التنبؤ بسلوكه أو بماذا يفكر، وهذه السياسة ورثها دونالد من ترامب تاجر العقارات الذي يتربص بالفريسة مستخدماً ضدها ما يكفي من الغموض والحيل وصولاً لاصطيادها، وليس مهماً ما يقال عنه من أوصاف مثل مخادع أو محتال أو كاذب، تلك تبدو تفاصيل تافهة أمام نجاح الصفقة.

وهنا ليس من المبالغة القول إن تلك واحدة من أسوأ ما حدث في علم السياسة وممارساتها، فقد شهدنا كثيراً من المجانين والمرضى لكن ليس بهذا القدر الذي تنهار فيه أخلاق لدرجة الانحطاط.

من سخرياته أن مدينة نيويورك التي عاشت أحد أكثر لحظاتها رعباً وذعراً حين هاجمت طائرات برجي مركز التجارة العالمي على يد القاعدة قبل ربع قرن تماماً تستقبل سليل القاعدة وصاحب بيعة الظواهري أبو محمد الجولاني بينما يمنع البيت الأبيض وصول الرئيس الفلسطيني الذي تعاطف مع مدينة نيويورك يومها وشريك الحائز على جائزة نوبل للسلام بل صاحب فكرة السلام في المنطقة هذا هو ترامب خارج كل التوقعات ...!

ومن سخريات اللحظة الكونية الترامبية التي تسللت ذات مرة تحت جنح انهيار القيم والأخلاق وما أن تخلص منها وتنفس العالم الصعداء ذات انتخابات وإذ بها تعود من جديد لتبدأ رحلة جديدة من عبث السياسة عنوانها أن رجلاً يقف على رأس أكبر قوة في العالم ويدير العالم بهذه الخفة ويرشحه شريكه المجرم المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية لجائزة نوبل للسلام ... أرايتم سخرية أكثر من هذه ؟

هذا هو العالم وتلك هي السياسة تقف عارية من أي ورقة توت، عالم الأقوياء والمصالح وميكافيللي الذي يتجسد بلا أغطية. فترامب فضائحي إلى الحد الذي يضعها بكل صلف وبكل غرور وصراحة يهدد ..يطلب المال ثم المال من الأصدقاء والخصوم، فالعالم بالنسبة له ليس أكثر من حالة استثمارية أو كما يقول وزير مالية إسرائيل بتسلئيل سموتريتش عن غزة «كنز عقاري» ليدغدغ مصالح رئيس لا يفهم بغير تلك اللغة، وحين يتحدث عن إنجازاته خلال الأشهر الثمانية الماضية يقول: «ثمانية عشر تريليون دولار».

هذا هو الإنجاز الأكبر هكذا يرى العالم وهكذا يدير السياسة.

تدرك كبرى العواصم أن مرحلة مختلة ستعيشها البشرية لأكثر من ثلاث سنوات قادمة تحاول تمريرها بأقل الخسائر وتتجنب استفزاز الرجل غير المتوقع بالاستجابة لمطالبه، ولكن سياسة الجنون تصطدم عند موسكو وبكين حيث تختلف لغته ليصبح عاقلاً وكأنه لم يسمع ببيونغ يانغ. أرأيتم ؟.