اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ أيار ٢٠٢٥
لأنها الغريزة التي وُلِد بها الإنسان، فهو يخاف على أطفاله أكثر مما يخاف على نفسه، وهذا الخوف، الذي لا يزال منذ بدء الخليقة، دفع الإنسان إلى رحلة بحثٍ مضنيةٍ عن سُبُل الأمان، وتفتّق ذهنه عن فكرة الإنجاب بكثرة والتزاوج المتعدّد، لكي يكون له 'عِزوة' يحمي بعضُها بعضاً. ولم يتغيّر هذا التفكير، خصوصاً عند الفقراء والبسطاء، مع مرور الزمان، وليس لنا أن نطالبهم بتغييره، فأولادهم هم كل ما يملكون من متع الحياة وزينتها.
ولذلك، في الأيام الأولى من هذه المقتلة الدائرة بلا نهاية في غزّة، تفتّقت أذهان آباءٍ كثيرين عن فكرةٍ تبدو مؤلمة، ولكن يُخيَّل إليهم أنها تضمن عدم موت كل الأبناء. وهذه الفكرة أن يقسم الأب أطفاله بينه وبين زوجته؛ فيبقى الأب مثلاً في شمال غزّة، حيث يطالب الجيش، بإلحاحٍ دموي، بضرورة النزوح باتجاه جنوب وادي غزّة، ويُبقي معه عدداً من أطفاله، فيما يطلب من زوجته أن تصحب أمَّه العجوز في رحلة نزوحٍ قسريةٍ مع باقي الأطفال. وهكذا، تتفرّق العائلة أكثر من عام، حتى تم الاتفاق على عودة النازحين في يناير/كانون الثاني الماضي، فالتأم شمل العائلة ثانية، وفرحوا بنجاتهم، وظنّ الأب أن خطّته قد نجحت. ولكنّ الموت كان يتربّص، ويقبع ضاحكاً بسخريةٍ في زاوية البيت المتصدّع، لأنه كان له رأيٌ مختلف، أو لأنه كان يعدُّ لجولةٍ ثانية؛ فتعرّض البيت بمن فيه للقصف بصاروخٍ غادر، ورحل الأب مع زوجته وأطفاله جميعاً... هذه المرّة.
في غزّة، وحيث لا فكاك من بين فكّي الموت اللذين يدوران بكل وحشيّة في جميع الأرجاء، وكأنهما آلةٌ لا تعرف معنى التعب، يُعلن الآباء هناك فشلهم، وبكل جدارة، في المواجهة، بعد أن أعيتهم الحيلة. حتى إذا ما ظنّوا أنهم قد نجَوا بأطفالهم وأحبّتهم، أطلّ عليهم الموت ليحصد الأرواح من دون كللٍ أو ملل. وذلك ما حدث مراراً وتكراراً مع آباء ذهبوا للبحث عن وسيلة نجاة، فيما تركوا الأم مع الأطفال الصغار؛ ولكن الموت كان قد سبقهم، سابقاً الريح نحو الأرواح المرتجفة، فحصدها من دون أن يرفّ له جفن.
قبل يومين، آلمتنا وأوجعتنا صورة الأب الذي ذهب للبحث عن عربةٍ تنقل متاع أُسرته القليل مع أطفاله، وحين طال به البحث، عثر على ضالّته، واتّفق مع سائقها على مبلغٍ من المال كان هو كل ما يملكه. فطلب منه أن يُسرع نحو بيته، ولكنه حين وصل، لم يجد شيئاً في انتظاره؛ فلا البيت، ولا الزوجة، ولا الأبناء، كانوا هناك. كل ما وجده: أنقاضٌ وركامٌ وصرخاتٌ ما لبثت أن توقّفت.
للآباء محاولاتٌ فاشلة، وللموت جولاتٌ رابحة. ولذلك، أنت بوصفك أباً تفكّر كثيراً بأن تبقى في الخيمة، أو بين جدران البيت المتصدع الذي تعرّض للقصف عدّة مرات وظلّ صامداً. ويصل بك التفكير إلى أن تستسلم للموت، إذ لا فرار، وقد يتفتّق ذهنك عن فكرةٍ جنونيّة، مثلما فعل أحد الآباء ذات يأس؛ حين ربط كلّ واحدٍ من أطفاله بعمودٍ من أعمدة الخيمة، وجلس بينهم ينتظر سقوط الصاروخ.
ما الذي يشعر به الموت أمام عجز الآباء عن حماية أطفالهم وفلذات أكبادهم؟ وأيّ سعادةٍ ونشوةٍ تغمرانه حين يرى آلاته المجنونة تسقط فوق خيمةٍ من حبالٍ وقماشٍ مهترئ، وقوائمَ خشبيةٍ متهالكة؟ وما الذي يشعر به الموت، وهو يعرف جيداً أنه يكسب دائماً أمام الضعفاء، وأن لا جولة له مع قوّةٍ منافسة؟ ولكنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تختزل في كلمةٍ واحدة: الحرب، التي اخترعها الإنسان، وهو يتخيّل أنه سيحقّق أهدافه ومطامعه، ويقضي على ما يهدّد أمنه، من دون أن يعرف أنه يقتل أولاً أخاه الإنسان الضعيف، الذي لا يملك سوى قطعٍ صغيرةٍ من لحمه وروحه، سرعان ما تحوّلها آلات الموت إلى أشلاء.