اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ أيار ٢٠٢٥
في حالة صدمة وذهول، أفاق النازحون في مدرسة 'موسى' بحي الدرج بمدينة غزة، على أصوات انفجارات مرعبة دوت في سماء المدينة، مع توالي أحزمة نارية ضربت جبل الصوراني شرق حي التفاح، قبل الثانية فجر أمس الثلاثاء بعشر دقائق. لكن صدمتهم ازدادت مع اشتعال النار في الطابق الثالث من المدرسة نفسها، ما أدى إلى حالة من الفوضى والذعر، مصحوبة بصراخ وبكاء أطفال ونساء استفاقوا في أكثر لحظات ضعفهم وهم نائمون.
بسرعة، التهمت النار الفصول المفتوحة على بعضها، بعد أن دمر استهدافان سابقان الجدران الفاصلة بينهما. وقف الأهالي عاجزين عن إطفاء النيران. في الداخل، تقلب أفراد عائلة أبو عمشة بالنار وهم أحياء، وكانت أحلامهم لا تتعدى البحث عن الأمن داخل المركز، وقطعة خبز تسكت جوعهم. في تلك اللحظات، تعالت صرخات الاستغاثة من خلف النيران، وامتزجت رائحة الدخان بصرخات الألم، لتختلط في النهاية بأجساد 13 فردًا لم ينجُ منهم أحد، محوهم الرماد تمامًا.
في زاوية أخرى من المشهد، تجمع أطفال نازحون أسفل معرش في المدرسة، خوفًا من تمدد النيران وإحراق الخيام التي تملأ ساحة المدرسة كما حدث في مراكز أخرى. فيما قضت عائلات أخرى ليلتها في الشوارع المحيطة، حيث كانت النساء تحتضن أطفالهن الذين عادوا للنوم، بينما بقيت عيونهن حارسة عليهم.
عائلات محيت من السجل المدني
يقف يونس أبو عمشة في وسط مسرح المجزرة الدامية، بعيون دامعة وصوت منهك وملامح شاحبة، يتأمل صرخات الألم الأخيرة لعمه طلال يونس أبو عمشة وزوجته وأبنائه الذين استشهدوا جميعًا، وتم محو العائلة من السجل المدني، وكذلك ابن عمه طارق رشدي أبو عمشة وزوجته وبناته، التي محيت عائلتهم أيضًا من السجل المدني.
يسكن القهر صوته ويحفر الحزن أخاديده في ملامح وجهه، يقول أبو عمشة لصحيفة 'فلسطين': 'كانت العائلة نائمة عندما تعرضت للقصف، فتفحمت أجسادهم بحيث لم نستطع التعرف عليهم. عمي طلال وبناته كانوا عائلة كريمة يحبها الجميع، لديه ابن مهندس وآخر طبيب. وابن عمي طارق كان لديه ثلاث بنات. في الآونة الأخيرة، لم يكن لديهم قطعة خبز يأكلونها، يمر يوم أو يومان وهم يبحثون عن لقمة خبز صغيرة'.
ويضيف: 'رحل الشهداء وهم جائعون، وهذه الحقيقة المرة التي يجب أن يقف العالم أمامها ويصحو ضميره أمام ما نعيشه من إبادة جماعية'.
بعد ثلاثة أشهر من الحرب، نزحت عائلة أبو عمشة من شمال قطاع غزة إلى حي الدرج، وسكنت في المدرسة باحثةً عن 'الأمان' الذي لم تجده هناك، بعد أن نجت من استهدافين سابقين تعرضت لهما المدرسة وأسفرا عن مقتل نحو عشرين شهيدًا.
بقربه، كانت إسراء أبو عمشة تحاول جمع ما تبقى من مقتنيات وملابس وطعام نجى من المحرقة الدامية بعدما امتدت النار إلى الفصل الذي كانت تتواجد فيه. لم يفصلها عن الفصل المحترق سوى شادر بلاستيكي، كان الفاصل بين الموت والحياة، لكنه لم يصمد أمام النيران وشظايا صاروخين أطلقتها طائرات إسرائيلية مسيرة.
حملت إسراء أطفالها بصرخاتهم المذعورة، فيما كانت شقيقتها ضيفتها في تلك الليلة نزحت مع زوجها وأولادها من شمال غزة تحترق أمام ناظريها، وتصرخ بجسد يحترق. هب الجيران لإطفائها ونقلها إلى المشفى مصابة بحروق من الدرجة الثانية.
كانت إسراء شاهدة على مجزرة مروعة، ولحظات لا تُنسى، لا تزال الصدمة تخيم على ملامحها ونبرة صوتها. تجلس على أحد المقاعد بملابس مغبرة ومختلطة بالرماد، وكأنها نسخت مثلها على وجوه وأجساد أطفالها، وتحكي لـ'فلسطين': 'جئنا إلى المدرسة نبحث عن مكان آمن بعيدًا عن القصف والصواريخ والموت، لكن الموت والقصف لاحقانا'.
من زاوية أخرى من المشهد الدامي، تروي وهي تحتضن طفلها الصغير: 'تفاجأنا بالاستهداف دون سابق إنذار. احترق الشهداء أمام أعيننا وذابت جلودهم، النار كانت مشتعلة في كل مكان، والمكان مليء بالأطفال والنساء. نحن نازحون جئنا لنبحث عن الأمان وليس للموت'.
وعن احتراق شقيقتها تضيف بصوت ممزوج بالأسى، وهي تحاول حبس دموعها واستعادة جزء من قوتها بعد ساعات طويلة لم تذق فيها طعم النوم: 'جاءت أختي بعد يوم نزوح صعب، نامت هي وأولادها لدينا لمدة مؤقتة إلى أن تجد مكانًا تنزح إليه، لكنها احترقت هي وزوجها بحروق من الدرجتين الثانية والثالثة، في وضع صعب خاصة مع غياب الدواء والعلاج'.
ولم تتوقف المجزرة عند هذا الحد، فأحدث الصاروخ فتحة في الطابق وانفجر في الطابق السفلي، ما أدى إلى بتر يدي وقدمي الطفل عبد الكريم أبو عمشة، الذي أطلق صرخة حياة من بين الرماد والموت: 'نريد أن نعيش، وأن يعش أطفالنا حياة كريمة، وأن يتوقف شلال الدم'.
مشاهد مؤلمة
على مدار عدة ساعات، انهمك الشاب بلال شاهين بمساعدة بقية الأهالي في أعمال الإنقاذ وانتشال الشهداء، وإزالة آثار المجزرة، وإعادة بعض مظاهر الحياة إلى المركز. لكنه لن ينسى هو وبقية النازحين حياة العائلة التي قضتها تبحث عن الأمن داخل ذلك الركن، الذي سكنته رغم استهدافه سابقًا، وتضررت جدرانه التي امتلأت بالسواد بفعل القصف السابق، 'فسكنت العائلة في ما يشبه القفص'، كما يصف.
حاول بلال إطفاء الحريق عند اشتعال النيران، لكنه وقف مع آخرين أمام نيران هائلة، وبمعدات بدائية لم تستطع فعل شيء أمام نيران هائجة تأكل كل شيء. يروي لـ'فلسطين': 'تفاجأنا بحجم النيران الكبير، ومن خلفها كنا نلمح أجساد العائلة، كانوا مصابين واحترقوا أحياء. انتظرنا وصول طواقم الدفاع المدني، وعندما وصلوا، بصعوبة بالغة استطاعوا إطفاء النيران، وأخرجنا أجساد الشهداء المتفحمة التي لم نستطع التعرف عليها'.
'حتى طلوع الشمس، لم يعد غالبية النازحين إلى المركز بسبب خوفهم من تكرار قصف المدرسة كما فعل الاحتلال بأماكن أخرى'، أضاف وهو يكمل مهمته في كنس الغبار وإزالة الردم.
في ساحة المركز المليئة بالخيام، يلتقط يمن عريف أنفاسه، وهو يجلس بجانب أطفاله وزوجته، يحاولون إعداد طعام الغداء على النار. ينظر إلى الجزء المتفحم من الطابق الثالث بالمدرسة الذي تعرض للقصف، مستحضرًا تفاصيل ليلة دامية عاشها من هذا الركن، يقول: 'استيقظنا قبل قصف المدرسة على أثر أحزمة نارية ربما أيقظت من شدة صوتها كافة سكان مدينة غزة. حملت أولادي وخرجت من المدرسة لأن الأطفال صغار، وعاشوا لحظات مرعبة. قضينا ليلتنا في الشارع'.
وأضاف وهو يكرر كلمات الحمد على النجاة لـ'فلسطين': 'لو تمددت النيران كما حدث في مراكز إيواء أخرى، ربما وقعت مجزرة دامية. جئنا إلى هنا منذ ثلاثة أشهر من حي الشجاعية، ولم نتخيل أن يلاحقنا الموت'.