اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٣ أيار ٢٠٢٥
لَقَد *كُنتُم تَمَنَّونَ المَوتَ مِن قَبلِ أَن تَلقَوهُ فَقَد رَأَيتُموهُ وَأَنتُم تَنظُرونَ* *آل عمران143
الموت أمنية يضنّ بلحنها الوتر في محرقة غزة المستمرة لسنة ونصف، وما زالت تحرق الأخضر واليابس. ومن يمكن أن نسميهم 'الناجون' من المحرقة في غزة ليسوا بأحسن حال، بل لعلهم الأسوأ، فالشهادة أمنية، حيث الموت يحوم فوق الرؤوس، وصغارنا جميعًا يترقبون شهادةً عزيزة.
مع دعاء خاص ألا تتقطع أجسادنا ونحن ننتشل الأحباب والأصدقاء والجيران، وألا يعود الشهيد لأهله كيسًا من قطع اللحم بوزن 70 كيلو باعتباره ولدهم، وليس بالضرورة أن يكون كذلك. واستغاثة بالله تعالى ألا تتبخر أجسادنا كما تبخر كثير من أحبابنا، الذين لم يبقَ لهم أثر بفعل صواريخ وقنابل أمريكية تسحق البنيان، فما بال الإنسان!
ودعاء أهلنا في خيام النزوح، وحتى في البيوت، ألا يكون أحدهم شهيدًا حرقًا، حيث اشتعلت النيران مدّ البصر، والتهمت أجسادًا غضّةً طرية لأطفال ونساء، فتحوا أعينهم من نومهم على نيران تلتهمهم وكلَّ شيء حولهم، قبل أن يناموا نومتهم الأخيرة.
ويشغلنا قلق الموت، فرديًّا كان أم جماعيًّا، واختلف أهلنا في التقدير؛ فالبعض قرر ألا يفترقوا في حلهم وترحالهم ومكوثهم وتحركهم، حتى لا يغادر أحدهم الدنيا فيتحسر الآخرون عليه، فازدحموا في مكان واحد، بينما رأى آخرون الأخذ بالأسباب، فقسموا أنفسهم على أكثر من مكان، للحفاظ على جزء من العائلة.
وأقسى ما في الموت {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} (المائدة:106)، هو شعور الفقد، فالشهداء {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169) عقيدة، لكن يتفاقم شعور الفقد حين يضيع أثر الشهيد تحت الركام، أو يستشهد دون أن يعرف أهله مكانه، ولا تصلهم أي أخبار عنه، فيعيشون كل لحظة بأمل العثور على جثمانه وإكرامه بالدفن. وكم من شهيد ارتقى وهو يبحث عن شهيد حبيب مفقود، وربما حفر بأظافره في أكوام الركام، لعله يجد عزيزًا فُقد!
إنه الشعور الأقسى والأصعب؛ أن تفتقد ابنك خلال أيام وليالي المحرقة، ولم يعد حتى الآن، فتبحث عنه في الأزقة والزوايا والمعلومات المبعثرة، وحين يعجزك الأمر، لا تملك إلا الصبر والتسليم لصاحب الأمر.
ومع كل شهيد نراه في أحد الطرقات، يتفطر القلب على أهله الذين يعيشون معنا شعوريًّا، يفتقدونه ولا يعرفون مصيره. لقد مكثت جثامين بعض الشهداء أمامنا لأسابيع، حتى تحللت، ونهشتها الكلاب الضالة، والخطر داهم فوق الرؤوس وفي كل مكان، ولا قدرة لنا على فعل شيء. إنه شعور قاسٍ وصعب، وحين توافرت بعض الظروف، تمّ بسرعة دفنهم في الطرقات، حيث كانت شهادتهم، ولم يصل الخبر بعدُ إلى أهلهم الذين تقطّعت قلوبهم.
ومنهم من بقي شيء من وجهه، فتم تصويره في محاولة لإيصال الخبر إلى أهله حيثما كانوا، وقد تمكّن البعض من الوصول إلى جثامين أبنائهم، بينما بقي آخرون مفقودين، حتى المعلومة عنهم غير متوفرة.
بل وأكثر من 10,000 شهيد بقوا تحت الأنقاض، ولم يُعرف مصيرهم إلى الآن، وسُجلوا على أنهم مفقودون، وتحللت جثامينهم تحت الركام، ولم يعد الوصول إليهم ميسرًا، تقبلهم الله في عليين.
لم تعد الشهادة مصدر قلق في غزة، بل باتت أمنية ورجاء، و'نياله اللي استشهد'، فقد فاز بالصدق والسبق بإذن الله تعالى، لكن الدعاء لا يتوقف من الفقد؛ ألا يصبح الشهيد مجهول الهوية، أو مجرد كومة لحم صغيرة غير معروفة صاحبها، أو شهيدًا لم يجد من يدفنه حتى أكلته الكلاب الضالة، أو ابتلعه نفق مغلق ودُمر فوق رأسه.
فنَشأت ظواهر إنسانية قلقة من هذا المصير، فسجّل الآباء أسماء أطفالهم على أيديهم وأرجلهم، بل ووثّقوا وسجلوا أسماء الكبار، وحرصوا على ارتداء لباس لافت، حتى يمكن تمييز جثمانهم حال تقطّعهم أو انصهارهم.
ومع كل جثامين الشهداء التي اختطفتها عصابات الإبادة بعد قتلها أو حتى بعد دفنها، ثم تسلمها شعبنا في جنوب قطاع غزة، يتفطر القلب، حيث البحث المستحيل عن جثمان شهيد بعد أن تحللت جميع الجثامين الطاهرة، ولم يبقَ أي علامة ترشدك إلى محبوبك، ثم تُدفن هذه الجثامين الطاهرة في قبر جماعي واحد، لتنتظر على قارعة الحزن مجددًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
غزة برجالها ونسائها وأطفالها خرجت لله، وقاتلت بلحمها الحي، وفقدت حتى اسمها، فأصبحت 'مجهولة الهوية'، لكنها معلومة عند الله تبارك وتعالى، تُضاعف لهم الأجور بإذنه، فكم مجهول في الأرض معلوم في السماء:
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر:31)