اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢٦ أب ٢٠٢٥
الكاتب:
اسماعيل جمعه الريماوي
لم يكن إعلان الأمم المتحدة عن حالة المجاعة في قطاع غزة حدثاً مفاجئاً بقدر ما كان لحظة اعتراف متأخر بحقيقة دامغة يعيشها الفلسطينيون منذ شهور طويلة، فالتقارير الحقوقية والإنسانية والتحذيرات الطبية والصور القادمة من القطاع المحاصر كانت كلها تنطق بالمأساة، لكن النظام الدولي لم يرد أن يسمع قبل أن تصل الكارثة إلى ذروتها، وحين خرج التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، المدعوم من المنظمة الدولية، ليؤكد رسمياً أن هناك مجاعة تضرب شمال غزة وأن نصف مليون إنسان يواجهون 'جوعاً كارثياً'، كان ذلك بمثابة شهادة أممية جديدة تُضاف إلى سجل طويل من الجرائم الموثقة ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يتوقف عن استخدام التجويع كأداة حرب ووسيلة لإخضاع شعب بأكمله .
هذا الإعلان الذي يُفترض قانونياً وأخلاقياً أن يفتح الباب لتحرك دولي عاجل وفوري لإنقاذ المدنيين، قد لا يتجاوز في الواقع حدود الورق والأرشيف الأممي، لأن إسرائيل لم تعترف يوماً بأي قرار صادر عن الأمم المتحدة، وهي لم تُبدِ يوماً اكتراثاً بالقانون الدولي، على العكس اعتادت التعامل مع هذه المؤسسات بوصفها مسرحاً يمكنها أن تُملي عبره روايتها حين يناسبها، وأن تضرب عرض الحائط بقراراته حين تُدينها، وهذا ما يحدث اليوم: بينما تصف الأمم المتحدة الوضع في غزة بالمجاعة، تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية في أحياء الصبرة والزيتون بمدينة غزة عبر مسح مربعات سكنية كاملة، في مشهد يشي بأننا لسنا أمام حرب تقليدية بل أمام سياسة إبادة ممنهجة .
إن أخطر ما يكشفه هذا الإعلان هو حجم البلطجة السياسية التي تمارسها إسرائيل، ليس فقط بتحديها السافر لكل المواثيق، بل بثقتها المطلقة أن هناك من يحميها من أي تبعات، الولايات المتحدة الداعم الأكبر، ليست مجرد غطاء سياسي في مجلس الأمن يعطل القرارات ويُفرغ التقارير من مضمونها، بل هي شريك مباشر يقدم لإسرائيل الدعم العسكري والاستخباراتي، ويؤمن لها الحصانة المطلقة في مواجهة أي مساءلة، بهذا المعنى، تتحول المجاعة في غزة من جريمة إسرائيلية بحتة إلى جريمة مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة، بينما يقف العالم متفرجاً أو شريكاً بالصمت .
لكن، ورغم محدودية الأثر العملي للإعلان الأممي في وقف الجريمة، تبقى له دلالاته العميقة على أكثر من مستوى، فهو أولاً يضع العالم أمام حقيقة لا لبس فيها: ما يجري في غزة ليس حرباً عابرة ولا صراعاً مسلحاً تقليدياً، بل إبادة جماعية مكتملة الأركان تُستخدم فيها كل أدوات التدمير من القصف إلى الحصار إلى التجويع.
وهو ثانياً يفاقم عزلة إسرائيل على المستوى الأخلاقي والإنساني، إذ لم يعد بإمكان أي حكومة غربية أن تسوّق للرأي العام أن الأمر يتعلق 'بمكافحة الإرهاب'، بينما نصف مليون إنسان يعانون من الجوع الكارثي.
وهو ثالثاً يوفر أرضية قانونية جديدة لجهود الملاحقة أمام محكمة الجنايات الدولية، حيث يُعتبر استخدام التجويع أداة حرب جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم .
في المقابل، يكشف هذا الإعلان مجدداً عجز المنظومة الدولية عن حماية الشعوب حين يكون الجلاد مدعوماً من قوة كبرى، ويعري ازدواجية المعايير التي تحكم العالم، فحين ضربت المجاعة أجزاء من أفريقيا في العقود الماضية، تحركت المنظمات الدولية والإغاثية بشكل عاجل وسُيّرت جسور المساعدات، أما في غزة، فإن المجاعة موثقة ومعترف بها، لكن بدلاً من أن تُفتح المعابر وتُفرض الممرات الآمنة، تستمر المساعدات في التقطير والإذلال، ويُترك الناس يتدافعون خلف صناديق تُرمى في الشوارع او مراكز المساعدات الأمريكية تحت عيون القناصة، ومصائد الموت.
إن إعلان المجاعة في غزة ليس مجرد تقرير تقني أو تحذير إنساني، بل هو مرآة كاشفة لنظام دولي يتواطأ مع الجريمة ويمنح القاتل حصانة. لكنه، في الوقت نفسه، وثيقة تاريخية ستظل شاهداً على أن الاحتلال الإسرائيلي ارتكب جريمة تجويع جماعي بحق شعب أعزل، وأن العالم كله كان على علم ولم يحرك ساكناً، وهذه الحقيقة وحدها كافية لأن تُدين إسرائيل ومن يحميها، وتُسقط عنهم كل ادعاءات الأخلاق والقانون .
إن غزة اليوم تعيش ما هو أبعد من المجاعة، فهي تواجه عملية إبادة متكاملة الأبعاد، حيث الموت يتوزع بين القصف والتجويع والتهجير والحرمان من الدواء والماء، ومع ذلك يبقى الشعب الفلسطيني متمسكاً بحقه في الحياة والحرية والكرامة، وهو ما يجعل من كل إعلان دولي، مهما بدا محدود الأثر، سلاحاً إضافياً في معركة الرواية والوعي، ومعولاً في هدم جدار الصمت والتواطؤ، فالتاريخ لا يرحم، والجرائم الموثقة لا تسقط بالتقادم، وما لم يُنجَز اليوم بفعل سياسي قد يُنجَز غداً بفعل ذاكرة الشعوب ومحاكم العدالة .
و اخيرا هناك في غزة لا تُحصى الأرقام بقدر ما تُعدّ الأرواح الجائعة التي تنتظر كسرة خبز أو قطرة ماء، هناك أطفال ينامون على بطون خاوية وأمهات يراقبن أبناءهن يذبلون أمام أعينهن دون أن يملكن سوى الدعاء، وهناك شيوخ ينتظرون عوناً لا يأتي وجرحى يختنقون بلا دواء، وهناك مدينة كاملة تُمحى بالبطء عبر سلاح التجويع بعد أن أنهكها القصف والحصار، إعلان المجاعة لم يكن مجرد توصيف لحالة إنسانية، بل هو صرخة للعالم بأن غزة تُساق إلى الموت العلني، وأن الإنسانية تُهان في القرن الحادي والعشرين على مرأى من الجميع، قد تواصل إسرائيل بلطجتها وقد يزداد صمت العالم ثقلاً، لكن سيبقى صوت الضحايا أقوى من رصاصهم، وستبقى صور الجوعى واليتامى لعنة تطارد القتلة ومن تواطأ معهم، غزة، رغم كل الجراح، ستبقى شاهدة على أن الحق لا يموت بالجوع، وأن الكرامة لا تُدفن تحت الركام .