اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٥ أيار ٢٠٢٥
﴿الَّذينَ أُخرِجوا مِن دِيارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ﴾
في ذكرى النكبة، حين تتقاطع آلام الماضي مع جراح الحاضر، يظل الشعب الفلسطيني صامداً كصخرة في وجه عواصف المحرقة التي تجتاح غزة. دماء الأطفال والنساء تنزف على تراب الأرض المقدسة، لكن قلوب الأبطال لا تنكسر، وأرواحهم تحلق فوق الركام معلنة أن النكبة ليست نهاية، بل بداية ثورة لا تعرف الهزيمة. في كل شهيدٍ تُزرع بذرة أمل، وفي كل دمعةٍ تتوهج شعلة الحرية. غزة اليوم ليست فقط ساحة معركة، بل مدرسة صمود تُعلّم العالم أن الحق لا يموت، وأن الشعب الذي يُرفض أن يُمحى سيظل يكتب بدمائه أجمل فصول المقاومة والكرامة.
أمي وأبي كانا من الناجين من النكبة، حين هُجّرا صغارًا من بيوتهم وأراضيهم في عسقلان إلى غزة، ليكابدا شظف العيش في مخيم لاجئين في خانيونس أولًا، ثم في مخيم الشاطئ في مدينة غزة. وفي خيمة تحوّلت إلى بيت طيني، ثم غدت بيتًا قرميديًا، وفي غرفة واحدة للأسرة، كابدنا مشقة حياتنا. نحن الجيل الذي لم يعرف الدنيا إلا عبر غرفة قرميد في بيت لا يتجاوز 80 مترًا في مخيم لاجئين، يطل على زقاق لا يكفي لسير أكثر من شخص، بلا خدمات نظافة أو مياه أو كهرباء، فضلًا عن فقر مدقع، وما يصاحب ذلك من هجمات جيش الاحتلال على المخيم، حصارًا ومنع تجول واعتقالات. كانت أزقة المعسكر ميداننا قبل الانتفاضة وأثناءها، لتلاحقنا الإصابة والاعتقال، وكم من شهيد نقلناه بين أيدينا إلى مثواه الأخير. ومن أزقته خرجنا لملاقاة عدو مدجج بالسلاح، بالحجارة، ونحن نغني: 'طالعلك يا عدو طالع، من كل بيت وحارة وشارع.'
نحن الذين أُخرجنا من ديارنا، وعشنا الظلم والاحتلال والقهر والعدوان والقتل والاعتقال والجراح والإبعاد، ويريد العالم منا أن نستسلم، أن نرفع الراية البيضاء، أن نصبح عبيدًا في سوق النخاسة، وعمال سخرة عند المحتل المغتصب. وحتى حين سلّم فريق منا بالواقع، وقَبِل بـ 22% فقط من أرض فلسطين، في الضفة وغزة، ليبني عليها دولة، رفض المحتل المجرم هذا الحد الأدنى، ولاحقنا بالضم والاستيطان والقتل والتهجير.
لكن ربنا يحرم علينا هذا الاستسلام الذليل، وينادينا: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران: 195). كما أن الإذن جاء واضحًا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39)، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}(الحج: 40). فهو إذن مفتوح، ودعوة صريحة ألا نستسلم، بل أن نقاتل بكل ما نملك، وقد تكفل الله لنا بالنتيجة: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ}(الحج: 40).
هذا هو فعل النبي ﷺ، الذي أُخرج من داره، فكتب الله عليه القتال، ووعده بالعودة فاتحًا، محررًا، منتصرًا: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (القصص: 85).
إن محرقة غزة، في أحد أشكالها، نكبة جديدة، نُخرج نحن الناجون من المحرقة من بيوتنا إلى مراكز النزوح، إلى خيمة مهترئة، ويتجدد مشهد النكبة مع الأجداد والآباء. لكن الفارق اليوم أننا نقاتل، في ملحمة العبور المجيدة في 7 أكتوبر وما بعدها، نقاتل بأنفسنا، لا يوجد وكيل، لا جيوش عربية، وإنما نحن، نحيي قضية شعبنا، قضية اللاجئين، قضية القدس، وكل قضايانا.
لدينا الحق المطلق، مهما أصابنا من بأساء وضراء، ومهما أحرقت المحرقة الأخضر واليابس، ألا نيأس، وألا نستسلم، وأن نصبر ونحتسب، وأن نستمر في المقاومة، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (الأنفال: 44).