اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
نهاية الحرب على غزة كانت لحظة تحوّلٍ في الوعي والسياسة ومعنى النصر ذاته، فبينما أراد العدو أن يختم فصول الإبادة بإعلانٍ عن استعادة الردع وتحرير الأسرى، خرج من الميدان مثقلاً بالخيبة، تاركاً وراءه جيشاً متهالكاً، ومجتمعاً مأزوماً، ومؤسسة أمنية فقدت هيبتها أمام عقل المقاومة الذي أدار المعركة بمنطق السيادة لا النجاة.
اليوم يُمكن القول إن الطاولة التفاوضية التي جلس إليها الاحتلال كانت ارتداداً لقوة الصمود الميداني التي حوّلت الحصار إلى ورقة ضغط، والوقت إلى عنصر تفوّق، لقد أُجبرت 'إسرائيل' على أن تفاوض حركة محاصرة، لكنها لم تستطع كسرها ولا فرض شروطها عليها، إنّما خرجت حماس من حرب الإبادة وهي تُعيد تعريف معادلة النهاية بأن تنتهي الحرب بقرار المقاوم الذي صمد على أرضه.
من الميدان إلى الطاولة؛ معادلة إنهاء الحرب بشروط المقاومة
حين بدأت الحرب ظنّ الاحتلال أنه يملك قرار البداية والنهاية معاً، لكنه اكتشف بعد عامين من العدوان أن النهاية لا تُكتب في غرف القيادة بل في خنادق الصمود، لقد استطاعت المقاومة رغم حجم الدمار غير المسبوق، أن تنتقل من موقع الدفاع الميداني إلى موقع فرض الشروط السياسية، لتُثبت أن من يصمد في الميدان يكتب شروط الطاولة.
صفقة الأسرى كانت تبادل في موازين القوة والهيبة، ففي الوقت الذي كان الاحتلال يبحث عن صورة انتصارٍ رمزية تُرمّم داخله المنهار، كانت حماس تبني سردية الانتصار الواقعي بأن تفاوض وهي واقفة لا مستجدية، وأن تُنهي الحرب وهي ترفع سقف شروطها.
إن الزمن التفاوضي الذي امتد أسابيع بعد كل جولة من العدوان، كان في جوهره اختباراً لإرادة الطرفين، ورغم كل التهديدات ومحاولات فرض الحسم بالقوة، فشلت 'إسرائيل' في انتزاع أي ورقةٍ خارج منطق المقاومة، ليبقى التفاوض خاضعاً لمنطق من يملك النفس الأطول .
وحين جاء الإعلان عن الصفقة، كان الختام لمعركة السيادة بأن تُنهي حماس الحرب على توقيتها الخاص، لا على رزنامة الاحتلال، وأن تُجبر العدو على الخروج من الميدان وهو يدرك أن الحرب انتهت حين قررت المقاومة ذلك، لا حين قرر قادته في 'تل أبيب'.
حين سقط مشروع التفكيك الصهيوني أمام تماسك حماس
منذ اليوم الأول للحرب جعل الاحتلال من تفكيك البنية التنظيمية لحماس هدفاً مركزياً لعملياته، تحدث قادته بثقة عن نهاية الحركة وسقوط سيطرتها في غزة، وروّجت الدعاية الغربية لوهم الفراغ التنظيمي الذي سيتشكل بعد الإبادة، لكنّ النتيجة جاءت معاكسة تماماً، فقد بقي الهيكل قائماً، والقيادة متماسكة، والقرار موحداً حتى اللحظة الأخيرة من الحرب.
يكتب الصحفي الصهيوني حاييم ليفنسون في صحيفة هآرتس بمرارة تكشف عمق الفشل: 'حتى اليوم الأخير من الحرب، حافظت حماس على هيكلها التنظيمي وقيادتها السياسية وقيادتها الميدانية وسيطرتها في غزة، لم يجرؤ أحد من حماس على الانسحاب من صفوفها، أو تأسيس تنظيم منافس، أو إجراء مفاوضات مستقلة بشأن الاستسلام، أو بيع الرهائن مقابل المال'.
هذه الشهادة من داخل الإعلام العبري هي اعتراف بانهيار الرهان الصهيوني على مشروع التفكيك من الداخل، لقد سقط وهم البديل الداخلي الذي بُنيت عليه سياسات الاحتلال لسنوات، وفشلت محاولاته في خلق شرخ داخل الحركة أو شراء ذمم منشقين.
لقد أثبتت حماس -برغم المجازر والحصار والتجويع- أنها تنظيم دولة في ثوب مقاومة، لا مقاومة في ثوب تنظيم؛ تمتلك بنية إدارية وأمنية محكمة تتيح لها إدارة الصراع الطويل دون اهتزاز، ويضيف ليفنسون في قراءته أن 'التهديد الذي تواجهه حماس من الميليشيات الموالية لإسرائيل في غزة ضئيل للغاية'، وهو توصيف يُفند ادعاءات 'تل أبيب' عن وجود قوى محلية بديلة يمكن التعويل عليها، فالمقاومة رغم كل ما واجهته ظلت مركز القرار الأوحد في القطاع، لا تُنازعها قوة ولا تخرج من تحت عباءتها بندقية.
هذا التماسك التنظيمي كان أحد أسرار القوة الإستراتيجية للمقاومة؛ إذ حافظت على وحدة القيادة والسيطرة في ظروف استثنائية من الحرب الشاملة، ما جعلها قادرة على التفاوض من موقع الانضباط لا الارتباك.
لقد راهن الاحتلال على الانشقاق المدفوع وعلى تفكيك الصف المقاوم عبر الضغوط المعيشية والضربات النفسية، لكنه فوجئ بحركة أكثر تماسكاً من أي وقت مضى، تمتلك القدرة على ضبط إيقاع الميدان والسياسة معاً.
ولعلّ هذا ما يفسّر شهادة مراسل القناة 14 الصهيونية الذي قال: 'لا أفهم لماذا سفكنا دم جنودنا في غزة، إذا كانت أمريكا هي من ستعيد أسرانا، وليست العمليات العسكرية التي كان هدفها تحرير الأسرى وفق المعلن'، تصريح يختصر مشهد الانكسار بحرب كلّفت الاحتلال آلاف الجرحى والقتلى، لكنها لم تُفلح في هزّ بنية الحركة ولا في تحقيق أهدافها، لقد تحوّل مشروع التفكيك إلى تفككٍ في الذات الصهيونية، حين أدركت المؤسسة العسكرية أن صمود خصمها التنظيمي أقوى من تحالفاتها الدولية، وبذلك تكون حماس قد أنهت الحرب وهي أكثر تماسكاً مما بدأت، متخطيةً اختبار البنية والولاء والقيادة، ومؤكدةً أن سرّ القوة في فلسطين في القدرة على البقاء منظماً وسط الفوضى، ومتماسكاً وسط العاصفة.
الصفقة التي عرّت المنظومة الأمنية الصهيونية
فشل 'إسرائيل' في استعادة أسراها كان انكشافاً شاملاً لهالة التفوّق الأمني التي طالما سوّقها الاحتلال كجوهر لوجوده، فعلى مدى عامين كاملين، سخّرت 'تل أبيب' كل ما تملكه من تكنولوجيا متطورة، وأقمارٍ اصطناعية، وطائراتٍ مسيّرة، وقدراتٍ استخباراتية مدعومة من كبريات الأجهزة الغربية، لكنها لم تقترب قيد أنملة من معرفة مصير أسراها أو أماكن احتجازهم، نعم.. لقد خاضت حرباً استخبارية موازية للحرب العسكرية، لكنها خرجت منها عمياء في ميدانٍ تملكه المقاومة بالمعلومة لا بالسلاح.
الصفقة التي أُبرمت كانت إفلاساً استخباراتياً معلناً، إذ لم تستطع المؤسسة الأمنية الصهيونية، رغم كل عملياتها في قلب غزة، أن تفك شيفرة واحدة من شبكة المقاومة التي أدارت ملف الأسرى بسرّية مطلقة، وتحت أقسى ظروف القصف والانقطاع والحصار.
في المقابل كانت كتائب القسام تبعث برسائل متقنة الدلالة بأنّ من يملك المعلومة يملك زمام المعركة، ولعلّ ما قاله مراسل القناة 14 الصهيونية يختصر المأزق كله، فتصريحه ينزف مرارة، ويفضح حقيقة لم تعد قابلة للتجميل بأن 'إسرائيل' فقدت قدرتها على إنتاج النصر بنفسها، وأن منظومتها الأمنية، رغم تعقيدها التكنولوجي، باتت تدار بعقل أمريكي ورأسٍ سياسي مأزوم، فالجيش الذي قيل إنه لا يُقهر، وجد نفسه يُقهر في المساحات الأكثر حساسية؛ في الملف الأمني الذي يُفترض أنه اختصاصه المقدّس.
ثم جاء مشهد اتصال وحدة الظل في كتائب القسام بعائلات الأسرى الصهيونيين ليفجّر القلق في صميم المؤسسة الأمنية، فكما قال المحلل العسكري يارون أبراهام: 'كان لديهم خرائط لقواعد الجيش الإسرائيلي، فما الغرابة في أن تكون لديهم أيضاً أرقام لعائلات الجنود؟'، هذه الجملة هي إقرار بواقع استخباري مقلوب، فالمقاومة التي كانت هدفاً للمراقبة أصبحت هي من يراقب، وهي من يملك البيانات والمفاتيح والمعلومة الدقيقة، لقد انقلبت معادلة الهيمنة التقنية لصالح الذكاء الميداني المقاوم الذي تجاوز الأسلاك والأقمار إلى شبكات بشرية تعمل بصمتٍ وإيمانٍ واحترافٍ غير قابل للاختراق.
هكذا عرّت صفقة الأسرى المنظومة الأمنية الصهيونية من الداخل، وأسقطت وهم القدرة المطلقة أمام واقع العجز المركّب، فلم تعد 'إسرائيل' تملك القدرة على استعادة أسيرٍ واحد دون إذن المقاومة، ولا تستطيع فرض معادلتها الأمنية في قطاعٍ صغير تحاصره منذ عقدين، إنها صفقة الوعي الأمني الجديد، أن السرية المقاومة أقوى من الذكاء الصهيوني، وأن التحكم بالمعلومة أصبح سلاحاً استراتيجياً يوازي الصاروخ في فعاليته.
الإنجازان الكبيران؛ إعادة تموضع القضية وبناء الوعي الجديد
حين أُعلن عن صفقة الأسرى، ترددت في أروقة السياسة العالمية كحدثٍ أعاد ترتيب الأولويات، وفرض حضور القضية الفلسطينية من جديد على الأجندة الدولية، فلقد أراد الاحتلال أن يُنهي الحرب بطمس الجغرافيا والذاكرة معاً، وأن يُشيّع فلسطين إلى غياهب النسيان بعد الطوفان، لكن الصفقة جاءت كفعل إحياء سياسي ومعنوي، انتشلت القضية من ركام التواطؤ الدولي، وأعادتها إلى صدارة الخطاب العالمي.
فالإنجاز الأول الذي تُنهي به المقاومة هذه الحرب هو إعادة التموضع السياسي للقضية الفلسطينية في الوعي الدولي، حيث أعادت حماس صياغة المشهد من جديد، كفاعل إقليمي قادر على إعادة تعريف ميزان الشرعية في المنطقة، وليس كحركة محاصرة تخوض معركة وجود، فلم تعد القضية الفلسطينية تُقدّم بعيونٍ إنسانية باهتة أو كمأساة مستمرة، إنّما كحالة مقاومة تفرض حضورها، وتُخضع العالم لمنطوقها السياسي والأخلاقي معاً.
أما الإنجاز الثاني فهو تحرير الأسرى بوصفه انتصاراً رمزياً ومعنوياً يوازي الانتصار الميداني، ففي ثقافة المقاومة لا يكون الأسير رقماً، بل شاهداً على الوفاء وعنواناً للكرامة، فأن تُنجز المقاومة صفقة بشروطها بعد حرب إبادةٍ أراد العدو أن يكتب بها نهاية حماس هو في ذاته إعلان عن فشل مشروع التصفية الرمزية الذي أراد الاحتلال فرضه على الوعي الفلسطيني.
وهنا تتبدّى ولادة معادلة وعي جديدة تتجاوز حدود التنظيم إلى فضاء السيادة، من حماس كتنظيم مقاوم إلى حماس كحالة سيادة وطنية تمتلك مشروعاً سياسياً، وتدير معركة البقاء والكرامة بوعي الدولة.
لقد فشلت 'إسرائيل' في كسر إرادة الحركة، لكنها من حيث لا تدري منحتها شرعية مضاعفة في الوعي الفلسطيني والعربي والعالمي، فبعد كل هذا الخراب لم تتفكك الحركة كما تنبأ العدو، بل توسعت رمزياً لتتحول إلى مرجعية وازنة في الوعي الفلسطيني المعاصر؛ مرجعية لا تستمد قوتها من السلطة ولا من الدعم الخارجي، بل من القدرة على الصمود تحت النار، وإعادة تعريف النصر بوصفه بقاءً وسيادةً في آنٍ واحد.
ما بعد الصفقة؛ ملامح معادلة الردع المقبلة
الصفقة لم تُغلق صفحة الحرب، إنّما فتحت فصلاً جديداً في المواجهة أكثر تعقيداً وعمقاً، حيث أصبحت المعركة تُقاس بمن يمتلك القدرة على فرض المعنى وتحديد الإيقاع، فبفضل الصفقة تحوّلت المقاومة من فاعل ميداني إلى مُحدّد للمعادلات السياسية والأمنية في المنطقة، وأصبح الحديث عن غزة بوصفها نقطة توازن إقليمي يُعاد من حولها توزيع موازين القوة والشرعية، وهذا التحول يضع 'إسرائيل' أمام مأزقٍ وجودي مزدوج؛ فهي فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية، وفقدت في الوقت نفسه صورة الجيش الذي لا يُهزم التي بنت عليها أسطورة الردع لعقود.
لقد كان الوعي الصهيوني، منذ النكبة يتغذى على وهم السيطرة الكاملة والتفوّق الأمني المطلق، أما اليوم وبعد عامين من الإبادة والحصار، وجيشٍ عجز عن إعادة أسراه، باتت 'إسرائيل' تواجه انهياراً في بنيتها النفسية قبل العسكرية، فقد أثبتت الصفقة أن المقاومة تُدار بعقل استراتيجي يقرأ اللحظة ويمتلك زمامها، وأنها قادرة على تحويل الميدان إلى ورقة ضغط سياسي تُربك خصومها في واشنطن و'تل أبيب' معاً.
وهنا تبرز ملامح معادلة الردع الجديدة:
المقاومة تمسك بمفاتيح الميدان والمعلومة في آنٍ واحد.
العدو فقد يقين التفوق التكنولوجي والأمني.
الداخل الصهيوني يغلي بانقساماته، بينما الجبهة الفلسطينية تُعيد إنتاج وحدتها من تحت الركام.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل تقبل 'إسرائيل' بهذه المعادلة الجديدة، وتتعامل معها كأمر واقع؟
أم تعود لتسعير حربٍ خاسرة، تبحث فيها عن نصرٍ معنوي يرمّم صورتها المنهارة؟
المؤشرات الميدانية والسياسية توحي بأن العدو يعيش أزمة هوية استراتيجية، وأن خياراته تضيق، بينما خيارات المقاومة تتسع، فما بعد هذه الصفقة لم يعد كما قبلها؛ لقد تغيّر تعريف الردع ذاته مِن مَن يملك السلاح الأقوى إلى مَن يملك النفس الأطول والإيمان الأرسخ بجدوى الصمود.
من تحت الركام تُكتب المعادلات الجديدة
في نهاية هذه الحرب انتصرت حماس بمعادلة الإرادة والوعي، فلقد أراد العدو أن يُنهيها ككيان، فإذا بها تُنهي أسطورته كقوة مطلقة، أراد أن يُسكت صوتها، فإذا بها تفرض خطابها على العالم بأسره.
الصفقة كانت إعلاناً سياسياً عن نهاية مرحلة وبداية أخرى؛ مرحلة تتقدّم فيها المقاومة إلى موقع الفاعل في صياغة مستقبل المنطقة، لا كاستثناء في التاريخ، بل كقانونٍ جديد له.
في مقابل جيشٍ يترنح تحت ثقل عجزه، تقف حركةٌ خرجت من تحت الركام أكثر وعياً وصلابة، تحمل مشروعا لا يُختصر بالبندقية إنّما بفلسفة الوجود والمقاومة في وجه الإبادة، هكذا تُكتب فصول الردع الجديدة؛ لا بالانتصار العسكري المجرد، بل بالقدرة على البقاء، وصناعة المعنى من تحت النار.
إنها صفقة الوعي قبل أن تكون صفقة الأسرى، وإنجازٌ يؤكد أن من يملك النفس الأطول في هذه الأرض هو من يكتب النهاية مهما طال الليل، ومن لحظةُ انتقالٍ من الدفاع إلى صناعة المصير، ومن خطاب النجاة إلى فلسفة البقاء والهيمنة المعنوية.