اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
حين نتحدّث عن “رفع الهمة”، فنحن لا نتحدّث عن طاقةٍ نفسية أو حماسةٍ وقتية، بل عن يقظةٍ داخلية يشعر بها الإنسان حين يدرك أن حياته ليست شيئًا ثانويًا، وأن عمره رأس ماله، وأن الله خلقه لِغاية لا يليق به أن يعيش دونها. الهمة العالية ليست أن يُصبح المرء خارقًا، ولا أن يعمل فوق طاقته، بل هي أن يتخلّص من الثقل الكامن على قلبه، ذلك الثقل الذي يجعله يستصغر نفسه، ويبتلع يومه، ويكبّله بقلقٍ لا ينتهي. فالإنسان حين يثقل قلبه بالانشغال الزائد، وبالتخويف، وبالتقليل من نفسه، يصبح عاجزًا عن النهوض، حتى لو كان الطريق أمامه مفتوحًا، والباب مشرعًا.
الهمة هنا ليست “إرادة”، بل حالة روحية. نور يهبطه الله على قلب عبدٍ صدق في طلب المعنى، فيبدأ يرى نفسه كما أراده الله أن يكون: إنسانًا ذا قدر، ذا رسالة، لا مجرد رقم في الزحام. وحين تنكشف للإنسان هذه الحقيقة، يشعر داخله بشيء يشبه الانبعاث، كأن نفسه تريد أن تتقدم خطوة… ولو كانت صغيرة. هذه الخطوة الصغيرة هي أوّل معاني الهمة.
لماذا تضعف الهمّة؟ لأن القلب يتوه قبل أن يتعب الجسد
لا ينهار الناس لأنهم ضعفاء، بل لأنهم مُنهَكون من الداخل. الإنسان حين يجلس طويلًا أمام الأخبار المقلقة، والوسائل التي ترسم له صورًا مُبالغًا فيها عن حياة الآخرين، يبدأ يشعر بأن حياته بلا قيمة، وأن جهده لا يكفي، وأنه مهما تحرك فلن يصنع شيئًا. هذه المشاعر لا تصيب الهمة فقط، بل تُطفئ في الإنسان معاني الرضا، واليقين، والطمأنينة… وهي أركان القوة الروحية. والقلب حين يُثقل بالهموم الصغيرة يفقد بصره عن المعنى الكبير. والإنسان كلما نسي غايته، نزلت همته. هذا قانون. فالذي يعيش يومه بلا هدف، وبلا معنى، وبلا ذكر لله، وبلا لحظة تأمل صادقة، يصبح كالسفينة التي فقدت بوصلة البحر؛ تتحرك كثيرًا لكنها لا تصل.
وعند أهل الإحسان، ضعف الهمة ليس خطيئة، بل علامة تعب. ودواء التعب ليس القسوة على النفس، بل إعادة ترتيب الداخل:
أن يخفّف الإنسان من ضجيج يومه، ويباعد بينه وبين ما يستهلك طاقته، ويعيد لنفسه لحظة قرب من الله تُصفّيه وتعيد إليه اتزانه. فالقلب حين يهدأ… تعلو همته وحدها.
كيف تُرفع الهمّة؟ بالمعنى أولًا، ثم بالعمل القليل الثابت
أهل الله يقولون: 'من عرف لِمَ خلق، عرف كيف يسير.' فالهمة ترتفع حين يشعر الإنسان أن حياته ليست سعيًا مشتتًا، بل رحلة لها وجهة. والوجهة عند المسلم واضحة: أن يعيش لله، وأن يعمّر الأرض بالخير، وأن يترك أثرًا يُرضي الله ويرفع نفسه. وهناك ثلاثة أبواب ترفع الهمة في حياة أي مسلم، مهما كان بسيطًا أو محروق التجارب:
أولها: المعنى
أن تقوم من فراشك وأنت تقول: 'يا رب، اجعل يومي هذا لك.' هذه الجملة تغيّر قلبًا كاملًا. اذكر الله في أول يومك، واقرأ شيئًا يسيرًا، ولو آية واحدة، فإن القلوب تُروى بالقليل إذا صَدَق صاحبه.
ثانيها: إزالة أثقال القلب
لا تتوقع من قلبٍ مُثقل بالحزن والقلق والمقارنات أن ينهض نحو المعالي. خفّف عن نفسك، اغفر لغيرك، اغفر لنفسك، وقلّل من الضوضاء التي تأكل روحك. القلب الخفيف… همته عالية.
ثالثها: عملٌ صغير يثبت
ليس المطلوب أن تُنجز كثيرًا، بل أن تكون ثابتًا. صفحة قرآن يوميًا، ركعتان في الليل، عشر دقائق قراءة، خطوة في مشروعك… هذه الأعمال الصغيرة تصنع “عضلة الهمة”، فإذا اشتدّت، أصبح القيام بغيرها أسهل. وعندها يشعر الإنسان أنه يتغير دون صراخ، وأن حياته تنتظم دون أن يرهق نفسه.
الهمة العالية ليست مقامًا خاصًا… بل نصيب كل من صدق
الهمة ليست حكرًا على الصالحين ولا على أهل الزوايا ولا على العلماء. إنها حقّ كل مسلم يوقن أن العمر قصير، وأن الله يرى نيته، وأن الأبواب تُفتح لمن طرقها بالصدق ولو ببطء. والله لا يطلب من عباده الكثرة… بل يطلب منهم الصفاء، والإقبال، وأن لا يرضوا بالدون لأنفسهم. ارفع همّتك، ليس لأنك قادر على كل شيء، بل لأن الله قادرٌ أن يرفعك فوق ما تظن. واعلم أن السقوط ليس هزيمة، وأن البطء ليس مشكلة، وأن الله يكتب لك أجر السعي ولو لم تبلغ المنتهاه. المهم أن يبقى قلبك مستيقظًا، وأن لا ترضى بأن تعيش دون الحد الذي يليق بنفخة الروح التي فيك.

























































