اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١ حزيران ٢٠٢٥
في حضرة الموت، التفت نساء منكسات القلوب حول جثمان الشاب محمد أبو حنتوش، بينهن أمه، وشقيقاته الثماني، وطفلاته الثلاث، وزوجته الحامل، يودعن عمود الأسرة الوحيد، الذي قضى وهو يبحث عن حفنة دقيق تحت ركام منزله في حي الشجاعية شرق غزة.
وبالكاد قبلن أن يشيعه الرجال، ويصلوا على جثمانه، كأن عقولهن وقلوبهن ترفض تصديق استشهاد محمد الذي استهدفته قذيفة إسرائيلية حينما كان يلاحق الحياة من تحت أنقاض الموت.
بصوت تستوطنه الحسرة، صرخت والدته المكلومة: 'ما أطيبك يما.. حبوب، وضحوك، وطيب، وما بتضر حد'.
كأنها كانت تتمنى أن يعود بها الزمن لما قبل استشهاده، لتجدد رجاءها منه ألا يذهب إلى الشجاعية لجلب الطحين الشحيح خشية على حياته، قائلة لصحيفة 'فلسطين': 'آخر إشي بقله: يما وين رايح؟ متروحش هناك تجيب الطحين (من أطلال المنزل)، خايفة عليك. يقولي: بديش أروح... من ثلاث أيام كان بده يروح، البنات بدهم طحين'.
لكن حدث ما لا تتمناه أم محمد: 'يوم الخميس الماضي غاب ساعة، وعرفت إنه استشهد... زي الحلم رحت، يما'، مشيرة إلى أن هم نجلها كان فقط تدبير رغيف خبز لطفلاته.
وفي أحد أروقة المستشفى المعمداني، كانت 'أم فايق'، شقيقة الشهيد الكبرى، تجهش بالبكاء والدموع تنساب ساخنة على وجنتيها.
بنبضات متسارعة وصوت مختنق بالدموع، تقول: 'هو وحيد، والله ما إلنا غيره.. ٨ بنات وعلى عطش إجى.. وكمان عنده ٣ بنات.. حسبي الله ونعم الوكيل.. الله ينتقم منهم.. كل واحد بده يروح يجيب لقمة ولاده يطعميهم بيستهدفوه.. كان يجري ورا لقمة العيش'.
كادت تسقط أرضا، ولم تقو قدماها على حملها، وهي تستحضر آخر كلماته، قائلة لصحيفة 'فلسطين': 'سألني: إجت التكية عندك يختي؟ عشان أجيب لبناتي، إلهم أسبوع ما أكلوا.. قلتله: يخو أول ما تيجي والله لأبعتلك وأرن عليك. اجت التكية، عبى منها، وقال: الله يرضى عليك، بدي أروح أطعم أمي وأبوي وبناتي. قلتله: يخو إذا حد بعتلنا رز ولا حاجة والله لأعمل حسابك... وطلع وما رجعش. استشهد'.
كان محمد نازحا قسرا من حي الشجاعية، لكنه لم يترك مسؤولياته.
في ظل مجاعة متفاقمة وغياب الطحين بسبب إغلاق الاحتلال المعابر المؤدية إلى غزة منذ مارس/آذار، قرر المجازفة والعودة تحت الخطر، إلى بقايا منزله عله يعثر على حفنة دقيق تشبع طفلاته الثلاث: أمل، وسمية، وزينب، أكبرهن في السادسة من عمرها.
زوجته حاليا على وشك الولادة، فهي حامل بطفلته الرابعة، وكانت الأسرة كلها تنتظر رغيفا، لا يعلمون أنه سيكون الأخير.
'أبوه طفح الدم'
نسيبه، 'أبو فايق'، يروي المأساة بتفاصيلها وهو يغالب الحسرة: 'مسكين.. رايح يجيب لقمة العيش، يجيب طحين من الشجاعية.. ضربوه بالمدفعية هو وعدة شهداء معه'.
يقاوم دمعة كادت تسقط من عينيه، مضيفا: 'محمد أخ وحيد لثماني بنات، طول حياته تعب ومشقة.. أبوه طفح الدم لمن ربّاه وكبّره، خلاه زلمة وزوّجه، وأنجب ثلاث بنات. الحمد لله ربنا اختاره شهيد'.
وباتت طفلات محمد بلا معيل. يقول 'أبو فايق': 'ربنا يتكفل بهن'.
ويشرح الظروف التي مر بها محمد بسبب حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023: 'هو كان نازح، لكن الضغط والغلاء الفاحش وعدم توفر الطحين، خلاه يرجع على الشجاعية ليجيب كيس طحين مما تبقى من داره المدمرة.. استهدفوه وقتلوه. هاي فاجعة..'.
ويتابع: 'محمد كان يعيل أمه وأباه وأخته غير المتزوجة، وكان يشتغل (قبل الحرب) في مجال الغاز. أمه تعاني أمراضا مزمنة، ووالده خمسيني عاطل عن العمل، واستشهاد محمد كسر ظهرهم'.
في لحظة الفاجعة، دخلت أم محمد، والدة الشهيد، في حالة صدمة حادة بقيت على إثرها في المستشفى المعمداني حيث ألقت عليه هناك نظرة الوداع، وهي غير قادرة حتى على النطق أو التفاعل. فقدان نجلها الوحيد الذي كان عونها وعماد الأسرة ضربها في صميم القلب.
ويختم أبو فايق برسالة مفتوحة إلى العالم، موجهة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مفادها أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يخدعه بادعاء أنه لا يستهدف المدنيين، قائلا: 'هذا الشاب، وحيد أمه وأبوه، عمره ٢٢ سنة.. كان بيجري يطعمي أطفاله.. راح يجيب لقمة العيش من تحت الركام، مش حامل سلاح نووي! قتلتوه.. قتلتم مدني بريء رايح يجيب طحين، لطفلاته..'.
ويتابع رسالته: 'وين العالم؟ وين أوروبا؟ ... (جيش الاحتلال) بينزل براميل متفجرة على واحد مدني، وبيترك بناته الثلاث يتيمات، وزوجته أرملة وجنينها بلا أب'.
استشهد محمد، لتبدأ مأساة جديدة. بقيت بناته الثلاث في خيمة، بانتظار من يحنو عليهن، وزوجته على وشك الولادة لطفلة لن ترى وجه والدها الذي كان همه ألا يتركهن جائعات كما فعل العالم.