اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
في خطته الجديدة لإنهاء حرب الإبادة في قطاع غزّة وإرساء السلام في المنطقة، يقترح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إنشاء إدارة دولية مؤقتة في غزّة يقودها ما سماه 'مجلس السلام'، على أن تُستبعد حركة حماس من أي ترتيباتٍ حكم مستقبلية. وتقوم الفكرة على تشكيل سلطة انتقالية مدعومة إقليميّاً ودوليّاً للإشراف على إعادة الإعمار وضمان الأمن، بالتوازي مع انسحاب إسرائيلي تدريجي ووقف لإطلاق النار بإشراف قوة متعدّدة الجنسيات، تمهيداً لإصلاح السلطة الفلسطينية وإحياء مشروع الدولة الفلسطينية.
ورغم أن الخطّة أثارت اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، فإنها تطرح تساؤلاتٍ جوهرية حول مضمونها الحقيقي: ماذا يعني 'استبعاد حماس' عمليّاً؟ وماذا سيحلّ بعشرات آلاف الموظفين الحكوميين والأطباء والمعلمين والإداريين الذين حافظوا على استمرارية الحياة في غزّة منذ عام 2007؟ يؤكّد التاريخ الحديث أن محاولات إقصاء الفاعلين السياسيين والإداريين المتجذّرين في سياق ما بدل دمجهم نادراً ما تؤدّي إلى استقرار؛ فالإقصاء غالباً ما ينجم عنه مزيد من التطرّف والانهيار المؤسّسي وعودة أنماط أكثر تشدّداً من العنف.
ليست 'حماس' مجرّد تنظيم مسلح، بل حركة سياسية واجتماعية متجذّرة في النسيج الفلسطيني. وقد ساهم الحصار والانقسام والاحتلال الإسرائيلي في تعزيز حضورها الشعبي، ليس بالضرورة بدافع الأيديولوجيا، بل نتيجة غياب البدائل الديمقراطية الموثوقة. ومن ثمّ، قد يقود السعي إلى تفكيك 'حماس' بالكامل إلى مزيد من التشظي والفوضى لا إلى السلام. والتجربة العراقية في عام 2003 عندما جرى حلّ حزب البعث تقدم درساً صارخاً: 'اجتثاث البعث' أوجد فراغاً مؤسسيّاً واسعاً ملأته الجماعات المتمرّدة، فانهارت مؤسّسات الدولة واستمر العنف سنوات طويلة.
وفي غزّة، قد يؤدّي استبعاد آلاف الموظفين الذين خدموا في ظل إدارة 'حماس' إلى شلّ الخدمات العامة وتعميق المأساة الإنسانية. والأخطر أن خطة ترامب لا توضح مصير هؤلاء الموظفين: هل سيتم فصلهم؟ إخضاعهم للتدقيق؟ أم إعادة تأهيلهم ودمجهم؟ من دون إجاباتٍ واضحة، قد تتحوّل إعادة الإعمار إلى تجربة خارجية جديدة منفصلة عن الواقع المحلي الغزّي تفرضها أطراف دولية وتفتقر إلى أي شرعية داخلية.
أثبت التاريخ أن الحركات المستبعدة لا تختفي؛ بل تتكيّف، فمحاولة تفكيك 'حماس' من دون دمج كوادرها السياسية والمدنية ومقاتليها ضمن إطار وطني جامع قد تدفع آلاف الأشخاص إلى العمل السرّي خارج أي سيطرة مؤسّسية، ما يهدّد أمن غزّة ويفقد أي سلطة جديدة مصداقيتها. ومثلما أظهرت تجربة أفغانستان، فإن بناء نظام سياسي و حوكمي على أساس الإقصاء لا يولّد سلاماً بل هشاشة، ويمهّد، في النهاية، لعودة القوى التي جرى تهميشها. لذلك، ليس الانخراط مع 'حماس' تنازلاً بل ضرورة استراتيجية. فالإدماج السياسي هو الطريق الواقعي الوحيد نحو الاستقرار والمصالحة الوطنية.
يتجاوز الأمر البعد الأمني ليطاول جوهر القضية الفلسطينية: الوحدة الوطنية، فاستبعاد 'حماس' من الترتيبات السياسية بعد الحرب سيُكرّس الانقسام بين غزّة والضفة الغربية، ويُضعف النظام السياسي الفلسطيني أكثر مما هو عليه. ولكي تنجح عملية الإعمار، لا بد أن ترتبط بإصلاح مؤسّسات الحكم الفلسطينية، وخصوصاً الخدمة المدنية. فلا يجوز معاقبة موظفي غزّة على الظروف التي عملوا في ظلها، بل يجب إطلاق عملية إصلاح مهنية قائمة على الكفاءة تعيد بناء الإدارة العامة وترتبط بمشروع الدولة الفلسطينية. سيؤدّي تجاهل هذه المسألة إلى استمرار الشلل المؤسّسي وفقدان الشرعية لأي نظام سياسي جديد.
خطة ترامب ذات النقاط الـ21 تعيد إنتاج نهج مألوف في الدبلوماسية الدولية: السعي إلى إدارة الصراع بدل حل، فهي تقدّم حلولاً تكتيكية قصيرة الأمد تشمل، وقف إطلاق نار، إعمار، وسلطات انتقالية، لكنها تتجنب مواجهة الأسباب السياسية الجوهرية للنزاع: الاحتلال، والاقتلاع، وحرمان الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير.
من خلال تركيزها على السيطرة الإدارية والإشراف الخارجي، تُخاطر الخطّة بإعادة إنتاج دائرة التبعية والتجزئة التي وسمت تدخلات المجتمع الدولي في غزّة عقوداً. ومهما كانت الجهة الراعية، أميركية أو عربية أو دولية، لن يتحقق سلام دائم من دون أن تكون الوكالة الفلسطينية في صميم أي مبادرة.
ستكشف الأسابيع والأشهر المقبلة ما إذا كانت مبادرة ترامب ستُذكر مجرّد تفصيل في التاريخ، أم نقطة تحوّل حقيقية، فبعثة دولية لإعادة الإعمار والاستقرار تدمج الفصائل الفلسطينية، وتمكّن المؤسسات المحلية، وتربط الإصلاح بعملية سياسية ذات مصداقية، قد تمثل خطوة نحو مستقبل أفضل. أما إذا استمرّت المقاربة الإقصائية وتجاهلت الواقع المؤسّسي، فإنها ستعيد إنتاج الأسباب نفسها التي قادت إلى الصراع.
السلام في غزّة لن يتحقق عبر أطر مفروضة أو إدماج انتقائي، بل يحتاج شجاعة سياسية ولمواجهة الحقائق الصعبة، والانخراط مع الخصوم، وبناء مؤسّسات تعكس تنوّع المجتمع الفلسطيني، قد تحدّد خطة ترامب إرثه السياسي، لكن ما سيصوغ هذا الإرث، في النهاية، هو الاختيار بين الإدماج والإقصاء، وبين العدالة والحلول السريعة.