اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١ تموز ٢٠٢٥
وسط غزة، كان رصيف ساخن في ذروة الظهيرة ملاذا مؤقتا لـ16 فردا معظمهم إناث وأطفال من عائلة طافش، أجبرتهم كثافة النيران والقصف المتصاعد على النزوح من حي الزيتون جنوب المدينة، ليجدوا أنفسهم أمام رحلة جديدة من التشرد.
هناك وقفت طفلة بريئة برداء وردي، تنظر إلى عائلتها بخوف. تحمل ملامح أفرادها صرخة بلا نطق، تعبر عن انتظار لا ينتهي، وإجهاد يتجاوز التجويع، وقد قادتهم حرب الإبادة مرة أخرى إلى انعدام المأوى، بلا طعام أو نقطة استقرار.
عائلة طافش، كغيرها في غزة، أجبرها العدوان المستعر والتهديدات الاحتلالية الأخيرة للأهالي وأوامر عسكرية بإخلاء أحياء واسعة من المدينة تحت النار بعد 20 شهرا من حرب الإبادة الجماعية، على النزوح من بيت أو خيمة إلى محطة جديدة من المجهول، تتدارى في ظل الجدران المهشمة وتنتظر فرجا لم يأت بعد.
وتكشف الأرقام الدولية عمق هذا التشريد المتصاعد، إذ يفيد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية – OCHA، الصادر في 24 يونيو/حزيران 2025، بأن نحو 1.9 مليون مواطن – أي أكثر من 85% من أهالي قطاع غزة – نزحوا قسرا منذ بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى منتصف 2025.
وبحسب المكتب ذاته، فإن 82% من مساحة غزة خاضعة لأوامر إخلاء أو تصنيفات عسكرية احتلالية تمنع الإقامة فيها، مما يجعل فرص الاستقرار للأسر شبه معدومة.
وسُجلت 680,000 حالة نزوح متكررة بين 18 مارس/آذار و17 يونيو/حزيران 2025، نتيجة العمليات العسكرية العدوانية المستمرة، بحسب تقرير لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين 'أونروا'، صدر الشهر الماضي.
كما أن 3.2 مليون حالة نزوح داخلي تراكمية سُجلت في قطاع غزة منذ بدء الحرب، إذ إن كثيرا من الأسر نزحت قسرا أكثر من مرة، وفق إفادة مركز مراقبة النزوح الداخلي – IDMC، في تقرير أصدره بمايو/أيار 2025.
ولم تسلم حتى مراكز الإيواء من القصف الإسرائيلي الممنهج. ووفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، استهدف الاحتلال 256 مركزا للنزوح والإيواء تضم أكثر من 700,000 نازح منذ بدء الإبادة الجماعية.
وتعمد الاحتلال خلال الشهر الماضي (يونيو) استهداف أكثر من 11 مركزا للنزوح، في سياق جريمة منظمة تعكس استهتاره الفاضح بالقانون الدولي والاتفاقيات الإنسانية، كما جاء في بيان للمكتب الإعلامي.
وتقول أونروا: إن الاحتلال الإسرائيلي قتل أكثر من 810 أشخاص كانوا يحتمون في منشآت تابعة للوكالة في غزة منذ بداية حرب الإبادة، التي أسفرت منذ بدايتها عن استشهاد وإصابة أكثر من 180 ألف غزي معظمهم أطفال ونساء، وفق وزارة الصحة.
'وين نروح؟'
عدنان طافش، الرجل الخمسيني اتخذ أيضا مقعده على الأرض. ملامحه شاحبة، عيناه نصف مغلقتين، يختلط فيهما الإعياء بالذهول، كما لو أنه غادر منزله قبل دقائق ولم يصل بعد إلى تصديق ما جرى.
'كلنا في الشارع، مش عارفين وين نروح'. يقول بكلمات مثقلة بإصابة سابقة في رأسه، وبواقعه القاسي حاليا.
يشرح مأساته لـ 'فلسطين أون لاين': 'أنا هالوقت طالع من الدار وما إلنا إلا الله.. أنا ومرتي وأولادي ومرت أخويا الشهيد وولاده، كلنا في الشارع هينا مشردين'.
وبأسى يجتاح كلماته، يضيف: 'طلعت من شارع خليفة بحي الزيتون مع جيراني، مربع كامل ضربوه (طائرات الاحتلال) الليلة.. إذا ضلينا هناك بنموت، والأولاد بيموتوا، إيش ذنبهم؟'.
عدنان، الذي أُصيب خلال الأيام الأولى للعدوان بينما كان يذهب لجلب الخبز مع شقيقه (الذي استُشهد في اللحظة نفسها)، لا يزال 'أسيرا' لأعراض الإصابة السابقة.
'بكون ماشي بدوخ وبوقع.. ولساني تقل، أحيانا كلامي ما بفهموش حدا'، يقول بصوت متقطع، ثم يضيف: 'الحمد لله، إيش بدنا نسوي؟'.
إلى جانبه، زوجته 'أم يزن' تحاول إخفاء اضطرابها، لكنها لا تنجح؛ فالوجع يبدو في تشنج كتفيها وانحناء ظهرها.
'بقينا في دارنا وطول الليل قذايف علينا، والأولاد قعدوا يصرخوا، مش عارفين شو نعمل لهم.. وطلعنا تحت النار'. تصف ليلة الرعب الأخيرة في المنزل قبل أن ينزحوا قسرا.
أم يزن الأم لأربعة بنات وولدين، أكبرهم في الـ13 من عمره، وأصغرهم ثلاث سنوات، تضيف بصوت 'مهترئ' لصحيفة 'فلسطين': 'كذا مرة ننزح، وزوجي ما بيقدر.. بيغمى عليه بالشارع. المرة الأولى رحنا على الجنوب، وهاي المرة قاعدين بندور، ومش لاقيين مكان'.
وتشير إلى أن نصف منزلهم المسقوف بالزينقو في حي الزيتون مدمر، بينما عائلة الشهيد (أخو زوجها) تعيش معهم منذ ارتقائه.
لكن حتى هذا المنزل المدمر جزئيا ولا تتجاوز مساحته 140 مترا مربعا، لم يجدوا فيه مستقرا بسبب موجات التهديد الإسرائيلي والعدوان الذي يطال الجميع.
وتعصف بعائلة طافش أيضا مأساة التجويع مع إغلاق الاحتلال المعابر المؤدية إلى غزة منذ مارس/آذار. وتعتمد العائلة على الوجبات التي توزعها 'التكيات'، لكن حتى ذلك لا يتحقق دائما بسبب نفاد المواد الغذائية.
'أحيانا بنقعد من الساعة 6 الصبح للساعة 3 العصر وإحنا واقفين على التكية، وفي الآخر ما بناخد شيء'، تقول أم يزن.
أرملة شقيق عدنان، 'أم العبد'، استشهد زوجها قبل ولادة طفله الأخير، تقول وهي تجلس على قارعة الطريق: 'ارتقى وأنا حامل، وسميت المولود عصام على اسم أبوه'.
وتتابع وهي تراقب أطفالها السبعة بقلق: 'شايف أكم واحد برقبتنا؟ مش قادرة أجيب لهم طلباتهم، مش قادرة أتحمل، ولا في حدا واقف معنا'.
النداء الأخير
بعض أفراد عائلة طافش كان يحمل قدورا بلاستيكية وعبوات ماء، وآخرون جلسوا على دلاء مقلوبة أو على الأرض مباشرة، في مشهد يكثف ملامح التشريد والحيرة والتعب.
وفي الزاوية، جلس طفل صغير بجانب كيس بلاستيكي، يحدق إلى الأسفلت لا إلى الناس، كما لو كان يسأل الأرض عن بيت غادره دون وداع.
كل شيء في أجسادهم يوحي بأنهم في محطة تشريد قد تطول، وأن الرصيف بات هو المحطة الوحيدة المتاحة، والمارة هم الجيران الوحيدون المتبقون.
وبينما تحاول أم يزن تهدئة أطفالها، ترفع صوتها برسالة للعالم: 'بنقول للمجتمع الدولي: يوقفوا معنا، يوقفوا الحرب.. إحنا مش لاقين نتفة (مكان) نقعد فيها'.