اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
لم تمر الأعوام الماضية على أطفال فلسطين عامة، وغزة على وجه الخصوص، كما مرت على الأطفال في أنحاء المعمورة، فقد تابعنا كيف نشأ هذا الجيل في ظلال حربٍ لم تبق ولم تذر، جيلٌ يولد على الآلام، ويحيا يبحث عن أبسط مقومات الحياة، استبدل العدو ضحكات الأطفال بالدموع، واللعب بالخوف، والسعادة بالأهل والإخوة، إلى سلاسل أحزانٍ لا تنتهي، وقد شاهدنا في هذين العامين استهداف الطفولة بكل ما في جعبة هذا العدو من آلة للقتل والتدمير، في مشاهد كشفت زيف هذا العالم الظالم، وأظهرت انعدام أي إنسانية لكل دول العالم من دون استثناء.
ظلال هذه المعاناة، وأهمية الحفاظ على الرواية، ومواجهة السردية، والمضي قدمًا في مسار متنامٍ لا يضيع تلك الآثار الاستثنائية لأطفال غزة وفلسطين، فالقضية بالإنسان ابتداءً، وما يتصل به من قضايا وثقافة وجغرافيا ووجود وصمود، وكرامة وذاكرة. وفي خضم هذه المآسي، لا بد لكل عامل لفلسطين وقضاياها، أن يسعى إلى إنشاء جيل متعلق بهذه الأرض، جيلٌ لا يكتفي بالتعاطف والدموع والتضامن فقط، بل يحوّل هذه المشاعر إلى انتماء قويّ، وينتقل من التفاعل الوجداني، إلى الوعي الحقيقي بقضية فلسطين، بكل ما فيها من قضايا وشؤون، من البحر إلى النهر، وننسج مع هذا الجيل ارتباطًا راسخًا بالقدس والمقدسات، وتبقى غزة كما كانت دائمًا قبلة لكل حر، فهذا الجيل الذي بدأ يتفتق وعيه على هذه التطورات في غزة والقدس، لا يجب أن يُترك من دون برامج واضحة، تصوغ ذلك التعلق، وتبني له أطرًا واضحة، تصوغ شخصيته بكل معاني الحرية والإباء، وأن تكون فلسطين قبلة قلبه ووجدانه، كما مكة قبلة عبادته وتبتله، لنبني قادةً يسهمون في معركة الرواية والمناصرة الحقيقية، ويشكلون موجة تالية من العودة إلى فلسطين ومسراها وقدسها.
المعرفة أصل الانتماء
إن ربط الناشئة بالمقدسات واحدة من المهام الأساسية، فإن الاكتفاء بالعاطفة والتعلق الوجداني فقط، يحصر العمل لهذه المقدسات محصورًا بالتشوق القلبيّ، والتعلق الروحي، من دون وجود أي إرادة للفعل، ولكن هذه المعرفة عندما تتصل بالمعرفة، في مختلف شؤونها وأشكالها، تفتح أمام النشء آفاقًا رحبة من العمل، ومساحات التأثير، خاصة مع تشابك قضايا فلسطين، وأوجهها المختلفة، من التعرف على التاريخ والأهمية والمكانة، مرورًا بالواقع وتطورات التهويد، وصولًا إلى معاناة الإنسان في كل مكان، وخاصة في غزة، وهي قضايا ليست من نافلة القول، إذ تستوجب المزيد من العمل والتأثير والسعي، ما بين كل الفئات والبيئات.
ولا شك بأن الوشائج القلبية، ما لم يتم تمتينها بالمعرفة والاحتكاك والمعاينة وسبر الأغوار، ستكون هشة، سريعة الذبول، بينما تلك الوشائج التي تمتن من خلال المعرفة، ستُعمق الانتماء وترسخ الحب، لينطلق منها النشء إلى مساحات التأثير، مع أهمية استخدام الأدوات التقنية الحديثة، فهذه الأجيال الناشئة تتعامل مع الصورة قبل النص، وتتفاعل مع المعطيات السريعة قبل التحليل العميق والمسهب، لذلك من المهم تطويع هذه الأدوات والقوالب الجديدة، لتحمل ما نريده من معلومات ومعطيات ومعارف، تأتي إلى النشء، ولا ننتظرهم أن يأتوا إليها.
ومن المداميك الأولى للمعرفة أن نقدم لهذا الجيل فلسطين والقدس بأنها أرض مباركة باركها الله تعالى في كتابه الكريم، وهي محضن الأنبياء، ومنها عُرج برسول الله ﷺ إلى السماوات، وكانت نقطة تحول حضارية، تسلّم فيها النبي ﷺ قيادة ركب الحضارة البشرية من إخوانه الأنبياء، وما يتصل بهذا التاريخ العظيم الممتد، من فتوح فلسطين، والحقب الإسلامية المتلاحقة فيها، والأبعاد المختلفة الفكرية والإنسانية والقيمية، ورصيد عظيم من التشوق إليها، وصولًا إلى أهمية دور تلك البلاد في استقراء حالة الضعف التي كانت تمر بها الأمة، فقد كانت فلسطين والقدس مرآة تعكس واقع الأمة، ضعفًا وقوة، وأن تحريرها وازدهارها ارتبط بصعود الوعي ووحدة الإرادة، ونهضة هذه الأمة من كبواتها.
من الذاكرة إلى صناعة الوعي
لا يكفي أن نروي للناشئ أقاصيص الذاكرة، وأن نحمله المضامين البنائية الشرعية والفكرية فقط، فالانتماء الفعال مع فلسطين يشكل شخوصنا، فكما شكلت تلك البلاد جزءًا من تاريخ هذه الأمة، وميراث تشوقها، يجب أن تكون جزءًا من هويتنا الشخصية، وأن تكون بوصلتنا إلها واضحة وضوح الشمس، ما يجعل الارتباط متجاوزًا لأي تضامنٍ مؤقت، ينساب نحو الانصهار الكامل، علمًا ومعرفة وصناعة للوعي، تترجم فيه أحمال الذاكرة إلى مستقبل أكثر فعلًا وتأثيرًا، فالماضي القريب وما حمله من معاناة، والواقع المرير وما حمله من آلام، يجب أن يتحول من ذاكرة جماعية قصيرة المدى، إلى أدوات واضحة تسهم في تربية هذا الجيل، من خلال تسليط الضوء على القصص الملهمة، واجتراح المبادرات الطلابية المحلية والعالمية، مرورًا باستخدام أدوات الذكاء الصناعي، وصناعة الصورة والبرامج والألعاب وغيرها، في سيرورة متكاملة غير متكررة وغير تقليديّة.
ملامح المسارات العملية
وبناءً على ما سبق، يمكن صياغة جملةٍ من المسارات العملية للإسهام في بناء هذا الوعي، بشكلٍ متدرج ومتوازن، من أهمها:
- مسار المعرفة العقائدية والحضارية، من خلال بيان أهمية فلسطين، ومركزية المقدسات فيها، وفي قلبها المسجد الأقصى المبارك، وما يتصل بفضائله، وموقعه، وغير ذلك.
- مسار الوعي التاريخي، لتعرف الناشئة على 'الشام الكبير'، عن الحقب التاريخية لبلاد الشام، تلك البلاد التي تشكل الامتداد التاريخي والثقافي والديموغرافي لفلسطين، وكيف تعاقبت على هذه البقعة الحضارات، مع التركيز على التاريخ الإسلامي الممتد، وما يتصل بمواجهة المستعمر، وبذور المواجهة التي نضبت في رحم هذه الأرض المباركة، من عز الدين القسام إلى كتائب القسام.
- مسار التفاعل الإنساني، ربط الطفل والشاب بما يمر به أبناء هذه البلاد من معاناة وظلم، وبيان حجم الجور الذي يقع على فلسطين عامة، وغزة على وجه الخصوص، لتكون هذه الرسائل مسارات عمل فردي وجماعي، وتكون العنوان لتحديات البسيطة، ولكنها متصلة بهذا المضمون، من القراءة، والرسم وصناعة المحتوى المرئي وغيرها.
- مسار القدوات الملهمة، التي ضحت في سبيل الدفاع عن هذه الأرض، وكانت في سيرورة متصلة من الفداء، كسرت الحدود المصطنعة والهويات الزائفة، لتقف مع الحق، مع التركيز على النماذج الشبابية من فلسطين وخارجها، إلى جانب الشخصيات التاريخية، وغيرها، ليتضح للنشء أن المسار واضح وطريق التحرير خياراته ثابتة لا تتغير، من أبطالنا الأوائل إلى شخوص العبور العظيم.
من رد الفعل إلى صناعة الفعل
أكدت الأعوام الماضية أن العالم يتغير بسرعة، وأن مواكبة هذه التغييرات ضرورة ملحة، وأن الجيل القادم يجب أن يكون جزءًا من معاركنا القادمة، نصنع له مساحات الفعل، لا نتركه يبحث عن هذا الدور في أتون هذه المعارك المستعرة. ولا ريب بأننا أمام محطات كثيرة قادمة، إن استعددنا لها بشكلٍ جيد، ستكون مساحات الممكن أكبر بكثير، ومساحات التأثير أوسع وأكثر شمولًا ورحابة، وإن تقاعسنا عن هذا الدور، في الجيل القادم والأجيال التي رفعت من أصوات التضامن والمواجهة، ستكون الخسارة مضاعفة، فالأيادي التي رُفعت في الجامعات في العالم ستتحول يومًا من الأيام إلى الأيام التي تدين العدو وجرام الكيان، والأيادي التي نصنعها على أعيننا، ستكون في موجات الطوفان القادم، فالأجيال القادمة لا ترث الألم والعجز، بل ترث الثأر والرسالة والفعل.

























































