الضياع الأميركي في الشرق الأوسط

دومينيك دو فيلبان، رئيس الحكومة الفرنسية السابق، تحدث عن الضياع الأميركي في الشرق الأوسط، بل وفي العالم، لكأنها على وشك اضاعة الشرق الأوسط، بل والعالم. هي التي تباهي بكونها أحدثت تغييراً في مسار الحضارات وفي مسار الأزمنة، ألا يفترض بها أن تتغير أيضاً في رؤيتها للقرن، كما للقرون المقبلة...؟

كلامه 'لكي لا تبقى الكرة الأرضية تتدحرج هكذا نحو الجحيم'، ربما هذا ما يجعل معاهد البحث الأميركية في حالة من الارتباك، حين تتناول المسائل الحساسة في المنطقة. نقرأ أن قادة دول خليجية يرون أن اللعب على حافة الهاوية بين واشنطن وطهران لعب مبرمج، ليسألوا ما اذا كان ذلك 'التناغم' (السلبي أحياناً) مدخلاً الى صفقة جيوسياسية كبرى، وصولاً الى صفقة مماثلة مع أنقرة، ما دامت البلدان العربية تعاني من وهن بنيوي حاد أفقدها أي دور فاعل في صياغة المستقبل.

ولكن ألم تكن الولايات المتحدة، وحتى قبل اطلاق 'مبدأ ايزنهاور' عام 1957، وراء تدجين المنطقة العربية لتبقى رهينة الصراعات العبثية، ان للاستئثار بالثروات النفطية أو للحيلولة دون نشوء أي قوة يمكن أن تهدد 'اسرائيل'، كوديعة أميركية في الخاصرة؟

ما تظهره الأبحاث أن أركان الاستبلشمانت لا يرون في الشرق الأوسط سوى تركيا وايران و'اسرائيل'. لكن اللافت قول باحثين أن بعض مراكز القوى في واشنطن تنظر بارتياح الى المأزق الذي يواجهه اليمين في 'اسرائيل'، بعدما تجاوز كل الخطوط (وكل المصالح) الحمراء، حتى أن بنيامين نتنياهو قفز فوق البيت الأبيض، وألقى كلمة في الكونغرس انتهت بتصفيق تاريخي من الأعضاء.

في هذه الحال، كيف يمكن توقع أي تراجع في السياسات الأميركية حيال 'اسرائيل' اذا كان الكابيتول، وهو الهيكل المقدس للأمبراطورية، يرفع قاتلاً مثل بنيامين نتينياهو الى مرتبة الأنبياء؟

من الأبحاث أيضاً، أن الايرانيين والأتراك الذين تحكمهم اللوثة الأمبراطورية، باستخدام الترسبات التاريخية والايديولوجية لتحقيق احلامهم المستحيلة، انما عملوا على مدار السنوات المنصرمة لمصلحة الولايات المتحدة، التي تمحورت سياساتها على افتعال الصراعات وادارتها. هل كان بامكان الايرانيين أن يبعثوا ولو بـ 'أكياس الفستق' الى الحوثيين على البحر الأحمر، وحيث الرصد الدقيق حتى لطيور النورس، لولا أن الادارة تغض الطرف لاستنزاف السعوديين والايرانيين على السواء؟

شي جين بينغ تحدث للجانبين خلال الاجتماع الذي رعاه شخصياً في آذار من العام الفائت، وأفضى الى اتفاق بكين عن سياسات الاستنزاف الأميركية، داعياً الى عدم الانزلاق مرة أخرى.

سؤال حول الدافع المفاجئ لكتائب حزب الله العراقية وقف عملياتها ضد الوجود الأميركي، غداة مقتل الجنود الثلاثة في الأردن، وما اذا كان الايرانيون يريدون تعويم جو بايدن في المعركة الانتخابية، للحؤول دون عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض.

في الأبحاث، الايرانيون طلبوا من الحوثيين منع البواخر والناقلات المتوجهة الى 'اسرائيل' عبور باب المندب، ليبقى مضيق هرمز مفتوحاً، ليس فقط لعدم اغضاب السعوديين والخليجيين عموماً، وانما أيضاً لتفادي المواجهة مع واشنطن.

من لا يعلم أن أي صراع ايراني ـ عربي، أو تركي ـ عربي، أو عربي ـ عربي، هو لمصلحة الولايات المتحدة، وحتى لمصلحة 'اسرائيل'، وان قال وليم كريستول 'لولا أميركا لكان الايرانيون والأتراك تقاسموا المنطقة العربية، ولأكل العرب بعضهم بعضا'.

بمنتهى الفظاظة (أم بمنتهى الواقعية؟) قال الكاتب والأستاذ البارز 'لا دول هناك، بل تجمعات قبلية تحكمها ايديولوجيات تعود للعصر الحجري، ولا سبيل أمامها سوى البقاء في العربة ما بعد الأخيرة من القطار'.

معاهد الأبحاث اياها أو أكثرها، لا تستبعد حصول تداعيات سياسية لأحداث غزة. لترى أن بامكان الأنظمة بطريقة أو بأخرى استيعاب تلك التداعيات. أيعني ذلك، وبعد طوفان الدم، العودة الى... ما تحت الزمن؟

ثمة ضبابية هائلة ترخي بظلالها على المنطقة. مثلما الشرق الأوسط في حال ضياع، كذلك القوى العظمى بما في ذلك الولايات المتحدة.

في هذه الحال، من يتدحرج الى الجحيم؟ أهو الشرق الأوسط أم العالم؟