اخبار لبنان
موقع كل يوم -التيار
نشر بتاريخ: ٢٣ أيلول ٢٠٢٥
علي زين الدين -
كشفت المراجعة الكليّة الاقتصاديّة التي أجراها مصرف لبنان المركزي، مدى حدّة وعمق الفجوات التي شهدها الجهاز المصرفي خلال سنوات الانهيارات المالية والنقدية، والتي تشرف على ختام عامها السادس بعد أقل من شهر، وبانتظار ترجمة وعود حكومية بصياغة مشروع قانون إعادة الانتظام المالي، والمعني خصوصاً بتحديد سبل وآليات معالجة نواة الأزمات (الفجوة المالية العامة)، والمقدرة بنحو 73 مليار دولار.
وبدا شكلياً في الرصد الإحصائي، والمحقق لغاية نهاية النصف الأول من العام الحالي، مقارنة بالفترة عينها من منتصف عام 2019، أي مع بدء انفجار الأزمات الحادة، أنّ القطاع المصرفي اللبناني يضم حالياً 57 مصرفاً، منها 45 تجاريّاً، موزعاً بين 36 مصرفاّ مملوكاً من لبنانيين - وهو ما يمثل انخفاضاً عن رقم 38 في بداية الأزمة - و9 مصارف مملوكة من أجانب و12 مصرفاً استثمارياً متخصصاً - أي بانخفاض عن رقم 16 قبل الأزمة.
وتبدأ «تراجيديا» الأرقام والبيانات، في مقارنات بيانات الميزانية المجمعة، بعدما لجأت المصارف كافة، وتحت الضغوط الناشئة عن الأزمات، إلى تقليص ذاتي لكياناتها وعمليّاتها، سواء من حيث عدد الفروع المحليّة التي انخفضت بمقدار 425 فرعاً، أي بنسبة 40.2 في المائة ليستقر العدد عند 633 فرعاً، بينما تقلّص عدد الفروع في الخارج بمقدار 29 فرعاً، أي بنسبة 39.7 في المائة لتهبط إلى 44 فرعاً. وبالمثل، انحدر عدد أجهزة الصرّاف الآلي بمقدار 571 جهازاً، أو بنسبة 28.5 في المائة، لتفضي هذه الأرقام المتراجعة إلى الضرر الأكبر المتمثل بكادرات الموظفين واليد العاملة التي انخفضت بمقدار انحدر بنحو 12 ألف موظّف، أي بنسبة 47.7 في المائة، لينخفض الإجمالي إلى نحو 13 ألف موظف.
استتباعاً، أظهر الرصد الإحصائي حجم الكارثة التي لحقت بالمؤشرات الرئيسية للميزانيات المجمعة، ولا سيما بيانات الرساميل والأصول، ليشمل استطراداً المدخرات العالقة وتسجيل الضمور الحاد في محافظ الائتمان والتمويل، التي تعدّت أرقام الناتج المحلي البالغ نحو 53 مليار دولار قبل الأزمات، وذلك جراء موجات سداد بالسعر الرسمي السابق لليرة، أو من خلال شيكات مصرفية بالدولار المصرفي، الذي يوازي بين 10 و15 في المائة فقط من القيمة الفعلية للدولار النقدي في أسواق الصيرفة.
وقد أدّت عمليات السداد الضخمة للقروض التي شهدتها المصارف التجاريّة خلال الأزمة، بالإضافة إلى التدهور الحاد في سعر صرف العملة المحليّة إلى انكماش كبير في حجم محفظة التسليفات الذي تراجع من 56 مليار دولار، كما هو عشية الأزمة، بينها نحو 39.2 مليار محررة بالدولار، و16.8 مليار محررة بالليرة بسعر 1507 ليرات للدولار الواحد، لتنحدر بحدّة بالغة إلى نحو 5.5 مليار دولار، في منتصف العام الحالي، بينها 5.3 مليار بالدولار.
ويقر البنك المركزي في تحليله، بأنّه نتيجة للتباين في سعر الصرف فقد كانت القيمة الحقيقيّة للقروض المسدّدة أقل بكثير من قيمتها الدفتريّة. وهو ما كبّد المصارف خسائر كبيرة. في حين يتوقّع «المركزي» أن يظل نشاط الإقراض خجولاً ما لم تتم إعادة هيكلة شاملة للقطاع المصرفي وحلّ مشكلة المودعين.
وتؤكد إحصاءات القروض الجديدة بالدولار «الفريش» صعوبات استعادة البنوك حضورها القوي والميسر في أسواق الائتمان، حيث لاحظ الرصد الإحصائي أنّها لا تزال في مستويات منخفضة، حيث بلغت قيمة هذه القروض 553 مليون دولار منتصف العام الحالي، مع اقتضاء التنويه بأنّ غالبية هذه التمويلات على شكل قروض شخصيّة صغيرة بأسعار فائدة مرتفعة للغاية، كما تتطلب فرض معايير صارمة، مثل توطين الراتب وقياس القدرة الفعلية على التزام سداد الأقساط، مما يستبعد شرائح كبيرة من السكّان والشركات.
ولم يكن حجم الكارثة الرقمية أقل وطأة في بيانات الخصوم (المطلوبات)، حيث تظهر الفوارق الخيالية بين أرقام حقيقية معززة بتوظيفات مصرفية موازية لصالح المودعين، وأرقام معلقة يتم سداد مبالغ صغيرة منها تتراوح بين 400 و800 دولار كأنها حصص شهرية، حسب تعاميم البنك المركزي.
وتم رصد تراجع حجم بيانات الودائع المجمعة في الجهاز المصرفي من نحو 172 مليار دولار عشية الأزمة، موزعة بين 123.1 مليار دولار مودعة بالعملات الأجنبيّة وما يماثل بالسعر الرسمي حينها نحو 49 مليار دولار مودعة بالليرة، لتنحدر إلى نحو 88.8 مليار دولار منتصف العام الحالي، منها 87.3 مليار محررة بالدولار وفق القيود الدفترية لدى البنوك. مع التنويه بأن الودائع بالليرة قد استُنفدت بشكل رئيسي بسبب عمليات السحب، وتراجع سعر صرف العملة المحليّة، بينما جرى استخدام جزء كبير من الودائع بالعملات الأجنبيّة لتسوية القروض المباشرة أو الاتجار بالشيكات لتسويتها.
أما فيما يتعلق بالودائع «الفريش»، أي الدولار القابل للتسييل نقداً أو بسعر 89.5 ألف ليرة، فقد كشف الرصد ارتفاعها بشكل مطرد لتصل إلى نحو 4.36 مليار دولار منتصف العام الحالي، ومنها 2.2 مليار دولار أرصدة قائمة بموجب تعميم مصرف لبنان رقم 158، أي لصرف الحصص الشهرية للمودعين، ولا تُمثل بالتالي سيولة فعليّة لأنها تخضع للسداد التدريجي. أما المبلغ المتبقي، وقدره 2.16 مليار دولار، فهو يُمثّل ودائع جديدة يتعين على المصارف تحويطها بالكامل، وبحد أدنى للسيولة بنسبة 100 في المائة، من خلال الاحتفاظ بأرصدة معادلة في فروعها أو لدى بنوك مراسلة في الخارج، وبالتالي ليس لها تأثير مضاعف، ولا يمكن استخدامها لدعم الإقراض أو الاستثمار أو الوساطة الماليّة.
بحصيلة هذه الانخفاضات الحادة في بندي الأصول والخصوم (موجودات ومطلوبات)، تقلصّت بحدة مماثلة حسابات رأس المال لدى المصارف التجارية من مستوى 20.9 مليار دولار، لتصل إلى 5.2 مليار دولار خلال فترة القياس عينها. لتعكس بذلك فجوات الخسائر المتكرّرة التي تُسجّلها المصارف، وتنسحب تلقائياً على مستوى الرسملة الضعيف لدى في مؤشر القدرة على امتصاص الصدمات.