اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٦ نيسان ٢٠٢٥
شهدت مدينة صيدا إحدى أقدم الحواضر التاريخيّة في لبنان، تحوّلاً سوسيولوجياً بالغ الأهمية، غالباً ما جرى تجاهله في التحليلات المدينية، فقد ارتبطت هذه المدينة تاريخياً بثنائية غير مكتوبة بين ما يُعرف بـ«أهل السقى» وهم أبناء المناطق الزراعية للمدينة التاريخيّة من المقيمين في بساتين الليمون والحامض والأكيدنيا وغيرها من الذين ارتبطوا بالعمل في الزراعة، تنظيم شبكة المياه والأنشطة الريفية المعاشية، و«أهل البلد» وهم سكان النواة المدينية القديمة، المشتغلون بالحرف والمهن والخدمات التجارية والمتمركزون في قلب المدينة.
هذه الثنائية لم تكن مجرد اختلاف في الأنشطة الاقتصادية أو في الجغرافيا السكنية، بل شكّلت نمطاً بنيوياً من التمايز الرمزي والطبقي، حيث اعتُبر «أهل البلد» رمزاً للمدينية ونشاطها الاقتصادي والمهني، بينما ارتبط «أهل السقى» بالقِيَم الريفية التقليدية من التماسك الأسري إلى الزهد والبساطة أو العفويّة والالتزام الأخلاقي.
لكنّ هذا التقسيم شهد خلال العقود الأخيرة تحوّلاً نوعياً، لا سيّما مع تصاعد دور أبناء «أهل السقى» الذين التفتوا إلى التعليم العالي كوسيلة للترقّي الاجتماعي والثقافي. ففيما انجذبت بعض الفئات المدينية إلى أنماط استهلاكية مفرطة بعد الحرب متأثّرة بنموذج المدينة الحديثة، اتّسم سلوك «أهل السقى» برؤية استراتيجية قائمة على استثمار رأس المال المعرفي من دون التخلّي عن البنية القيميّة التي نشأوا فيها.
وقد أفرز هذا التحوّل فئة مهنية جديدة من أطباء، مهندسين، أكاديميين، محامين، إداريين... ورجال دولة، أعادت رسم الخارطة الإجتماعية في صيدا من دون أن تنسلخ عن جذورها. فمفاهيم التضامن العائلي، الاقتصاد المعاشي والالتزام الأخلاقي الديني والإنساني ظلت حاضرة بقوة في ممارساتهم، مما يؤشر إلى انتقال اجتماعي ناعم يجمع بين الحداثة والقِيَم، بين الطموح والانتماء.
هذا النموذج يمكن اعتباره حالة تطبيقية لمفهوم «التنمية الاجتماعية المستدامة» ومدنيتها المنوّرة، حيث لا يُنظر إلى القِيَم الريفية بوصفها عائقاً، بل كرافعة رمزية تؤسّس لحداثة غير مغتربة. إنه استثمار لا يقف عند حدود الاعتراف بالاختلاف بل يتعدّاه الى مرحلة الإستثمار في التنوّع، وصولاً إلى تثميره ضمن منظومة قِيَم تحافظ على التوازن بين الأصالة والتجديد المتواصل.
تُقدّم صيدا في تحوّلها الهادئ، درساً عميقاً في كيفية مواءمة التحوّلات الاجتماعية مع الخصوصيات الثقافية. فهي تُظهر أن الاستثمار في التعليم إذا ما تواكب مع روح جماعية ومسؤولية اجتماعية، قادر على إنتاج نخبة نوعية لا تعيد إنتاج التراتبيات القديمة، بل تخلق نموذجاً بديلاً يقوم على الكفاءة والالتزام والعدالة الرمزية من خلال نواة اجتماعيّة مؤسساتيّة جامعة.
... نحو مرحلة جديدة من التكامل المجتمعي في صيدا ولبنان، إن هذا التحوّل الصيداوي اللبناني في بناء مدنيتها المنيرة التي ضمّت العديد من التنوّعات لا يُكتمل بمعزل عن استحضار الثنائية التاريخية بين «أهل السقى» و«أهل البلد» لا بوصفها تمايزاً تنافرياً، بل كثنائية تكاملية تعبّر عن تنوّع اجتماعي خلّاق. لقد أثبت «أهل السقى» أن الصعود الاجتماعي لا يعني القطيعة مع الجذور، تماماً كما يشكّل «أهل البلد» ذاكرة المدينة وروحها الثقافية المستمرة.
من هنا، فإن المرحلة الجديدة التي حققتها صيدا تطلبت تجاوز منطق التمايز والانغلاق لصالح رؤية تشاركية وتكاملية استوعبت من خلال هذه المدنيّة القادمين إليها من المناطق المجاورة وأعادت صياغتهم. فكلّ من «أهل السقى» و«أهل البلد» يحمل مقوّمات ضرورية لمشروع نهوض اجتماعي متوازن. الأولون بما يمثلونه من قِيَم الالتزام القيمي والاجتهاد بالعلم والعمل، والآخرون بما يملكونه من تراكم مديني وخبرة مؤسساتية.
إن صيدا اليوم كما باقي المدن الساحليّة والبلدات الداخليّة مدعوّة لأن تُعيد صياغة نموذجها المجتمعي على قاعدة التآزر بين هذين المكوّنين ليصبح نموذجاً قابلاً للتعميم والتدريس باعتبار أن كلًّا منهما يحتاج إلى الآخر وكلّا منهما يُكمل الآخر. وحده هذا التكامل القائم على الاعتراف المتبادل والعمل المشترك ورفع مستوى العمل المؤسساتي، هو ما يصنع لنا مستقبلاً يوازن بين الأرض والمدينة، بين الذاكرة والمبادرة، وبين الجذور والآفاق.