اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٠ كانون الأول ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء':
رفع الرئيس الأميركي شعار أميركا العظيمة لكنه خاض حروب الدفاع عن أميركا العظمى، وقد اكتشف كما تقول وثيقة استراتيجية الأمن القومي التي صدرت قبل أيام، أن السير بالخيارين مستحيل، حيث ظهر أن أميركا العظمى لا يمكن الحفاظ عليها بسبب حجم التراجع في القدرات العسكرية والاقتصادية الأميركية، خصوصاً أمام روسيا والصين، حيث قالت حرب أوكرانيا بالتفوق الروسي العسكري في مواجهة قاتلت فيها الأسلحة الغربية والاستخبارات الغربية والتكنولوجيا الغربية وحلّ فيها الجنود الأوكرانيون بحوافز وطنية لا تملكها سائر جيوش الغرب في هذه الحرب في محاولة منح الغرب فرصة النصر الذي تحوّل إلى سراب، كما تحوّلت المنافسة الاقتصادية مع الصين إلى سراب، وبسبب هذين العاملين تحوّل الرهان على السقوط المالي والاقتصادي لروسيا إلى سراب، وفي منطقتنا حاول ترامب أن يشارك رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، رهان النصر المطلق على قوى المقاومة وإيران، فبقيت حروبه معلقة في غزة ولبنان ببقاء عقدة سلاح المقاومة، وفشل في الحرب على اليمن والحرب على إيران، وواجه حرباً جديدة في البحار لا تنفع معها حاملات الطائرات والسفن الكبرى كما قال تقرير مركز علوم البحر في البنتاغون في نيسان 2025 في قراءة لنتائج حرب البحر مع اليمن.
خاض الرئيس ترامب حرب الرسوم الجمركيّة إلى جانب سلسلة العقوبات المصرفية مستقوياً بهيمنة الدولار والنظام المصرفي الأميركي على الأسواق المالية العالمية، وكانت نجاة روسيا وتسجيلها نمواً متصاعداً في ظل العقوبات أكبر علامة على انتهاء فعالية نظام العقوبات مع الاقتصادات الكبرى، فيما فشلت الرسوم الجمركية في إخضاع الصين التي تملك أضخم سلاسل توريد في العالم، وترتبط بها دورة الاستهلاكي اليومي في الأسواق العالمية بما في ذلك السوق الأميركية الداخلية، واضطر ترامب للتراجع عن الرسوم الجمركية على الصين طلباً لتسوية تتيح إعادة تصدير المعادن الثمينة النادرة والتي تتوقف عليها الصناعات التكنولوجيّة العالية الدقة، من الصين إلى أميركا، وطلباً لاستئناف الصين استيراد فول الصويا من أميركا، وجاء التسليم بنهاية فرص الدفاع عن أميركا العظمى، متزامناً متلازماً مع ظهور المصاعب أمام النهوض بأميركا العظيمة، لفتح باب البحث عن بديل ثالث حملته الوثيقة.
أميركا العظيمة أي المتطوّرة تكنولوجياً والمستقلة اقتصادياً، اصطدمت بعجز شركات التكنولوجيا العالية الأميركيّة الأصل عن العودة إلى التصنيع داخل أميركا ومغادرة أسواق الهند والصين، ونجاح مشروع أميركا العظيمة يستدعي ضمان المزيد من النمو الاقتصادي وضمان مستوى معيشة متقدّم للأميركيين في الوقت ذاته، وقد بدا ذلك استحالة مطلقة، النمو يحتاج إلى دخول منخفضة، والرواتب العالية تعني كلفة إنتاج عالية وتراجع القدرة التنافسية، وأميركا العظيمة تحتاج إلى قدرة استقلال غير متاحة، حيث المواد الأولية الحساسة للإنتاج وسلاسل التوريد الاستهلاكية القابلة لضمان استقرار الأسواق الداخلية، تحت سيطرة الصين، من هنا جاءت صيغة أميركا الكبرى كبديل.
أميركا الكبرى تعلن نهاية أميركا العظمى بالتخلي عن طموح السيطرة والهيمنة وخوض الحروب في العالم، والتصرف كدولة تحكم العالم وتصدّر نموذج الحكم إلى دول العالم، والتموضع وراء خط جغرافيّ للنفوذ والسيطرة يمكن الدفاع عنه، هو هذه المرة محيط الأطلسي، بحيث تصبح القارة الأميركية هي منطقة النفوذ والسيطرة، بما فيها من موارد نفطية ومن معادن ومن أسواق، ويد عاملة رخيصة وماهرة، من البرازيل إلى كندا وصولاً إلى المكسيك والأرجنتين، وفنزويلا وكولومبيا، وصولاً إلى بنما وغرينلاند، ويبقى الأهم هنا الداخل الأميركي الذي تطرح الوثيقة إعادة صياغته على قواعد تصادميّة مع الحريات والتعددية تحت شعارات أيديولوجية مثل القيم الأميركية، والحفاظ على الهوية الأميركية.
المشروع الذي يريح الكثير من خصوم وحلفاء أميركا ويزعج حلفاء وخصوماً آخرين، مضطر إلى أن يخوض اختبارات قوة قاسية في المحيط الأميركي، وخصوصاً في أميركا الجنوبية، وأن ينخرط بعمليات تغيير حكومات، وهو يعلن الحرب على النفوذ الصيني التجاري والاقتصادي في كل القارة الأميركيّة، بحيث تصبح العقوبات وربما عمليّات الاستهداف ثمناً لكل روح استقلاليّة لدى حكومات دول القارة، وتبدو المكسيك والبرازيل أبرز المستهدفين، بعد فنزويلا وكولومبيا، وعرض خيارات ضيّقة للغاية أمام هذه الحكومات لبناء الإمبراطورية الجديدة، الحصار والرسوم العالية والعقوبات المصرفيّة والسيطرة على البحار والحدود، أو الخضوع والتحوّل إلى حاضنات بديلة عن الهند والصين للصناعات الأميركية، ومراكز لإنتاج سلاسل توريد منافسة للصين، وتوريد المعادن والنفط للسوق الأميركية، وقبول الانضمام إلى حلف إقليمي يقوده مجلس رئاسي برئاسة الرئيس الأميركي على نمط مجلس السلام الذي يخوض الرئيس الأميركي غمار تشكيله في غزة.
مغامرة أميركا الكبرى محفوفة بالمخاطر، لكنها تبدو خرطوشة أخيرة أمام أميركا قبل التسليم بفشل النموذج، وربما مواجهة خطر التفكك واستقلال الولايات.











































































