اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الأخبار
نشر بتاريخ: ١٧ أذار ٢٠٢٥
إنه أحَدَ أهم مُطوّرِي الأداء في المسرح اللبناني الحديث، بل ربما رائدهم المخضرم. وقفته الفذّة على الخشبة، القامة الأسطورة والإحساس الشكسبيريّ، بطل الرؤى الممزقة بين الحبّ والكبرياء في مزيج بارع من تقنيات الأداء بالصوت والصورة وفصاحة التعبير والنظرة والقسمات القوية
يتخذ الكلام على أنطوان كرباج (1935 ـــ 2025) تعددية ماتعة للأفكار التي توزعتها «داتا» العروض الفنية على امتداد أكثر من خمسين عاماً، هو عمْر تجربته الفنية بين المسرح والتلفزيون، مع ما اتصّل بها دوماً من اقتناعٍ مسبق للجمهور بمقبولية ما قدمه هذا الرّجُل في مختلف أشكال الفعل الدرامي.
كرباج الذي انطفأ أمس في «مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي » في منطقة الأشرفية في بيروت، رجلٌ كوزموبوليتيّ النَّسَب والنشأة: جدّته لأمه سويدية الأصل، وجدُّهُ لوالدته إسبر كرم ابن صنّين.
والده شكري كرباج ووالدته إيراساما كرم... شكّل ذلك التنوع الجيني بادرة تحوُّلِهِ قامةً مسرحيةً فائقة التكيف وسريعة التعلم نشأت في فضاء اجتماعي/ ثقافيّ تشكَّل حديثاً في الوطن الصغير، ونعني المرحلة الذهبية للمسرح الحديث في لبنان.
منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، استعدّ كرباج دائماً لإعطاء الكثير لجمهوره، وهو يفسّر بأدواره التي يتقمّصها بشغف وأريحية، حساسيةَ التفاصيل اليومية التي نقلها إلى الخشبة من زاوية الرؤية نفسها التي شكلت ولاءه لروحية الفن بالانفتاح على أشكالٍ ومدارس مُتعدّدة من عروض «أبي الفنون » التي راوحت بين الجادّة السياسية والوطنية والاجتماعية، أو المُولّفة هزلياً إنما على الهامش الوجيه نفسه في صيغة الطرح والمعالجة لقضايا المجتمع.
بعد النكسة، قدّم مسرحية «الديكتاتور» التي عُدَّتْ رفضاً رمزياً قوياً لتلك الهزيمة الثقيلة
مثّلَ كرباج جذور الحركة الطليعية للمسرح اللبناني في انطلاقتها في بداية الستينيات من القرن الماضي مع مدرسَتَين رائدَتَين في التمثيل المسرحي: «معهد التمثيل الحديث» (1960) لمنير أبو دبس، و«فرقة المسرح الحديث» (1962) لأنطوان ملتقى. يجهل كثيرون أنّه كان مجتهداً بالسليقة وسريع التعلم، قادماً من ثقافةٍ أكاديمية أوّلاً، تعجُّ بالطموح والدينامية، منذ أن كانَ يؤلّف بعض الاسكتشات ويؤدّيها على الفطرة مع أترابه في ضيعته زبوغا (محافظة جبل لبنان) على سفح جبل صنين في المرحلة الابتدائية، ثمّ الثانوية وصولاً إلى تخرجه من دار المعلمين في الجامعة اللبنانية، حيث أصبح أستاذ فنّ الإلقاء المسرحي في معهد الفنون التابع لها منذ عام 1972.
أضف إلى ذلك نشاطه في ترجمة أعمال مسرحية مثّلَها كلّها هي: «ماكبث» لشكسبير، و«الذباب» لسارتر، و«أنتيغون » لسوفوكل، و«القصر» لكافكا.
من الواجب إيجاز أهم منجزات كرباج المسرحية سريعاً: بعدما لعب دور «ماكبث» (1962) مع المعلّم منير أبو دبس الذي أعجب به وأفاد من توجيهاته في إعداد الممثل، استكمل طريقه بمعيته ثم مع يعقوب الشدراوي وبرج فازليان والأخوين رحباني وآخرين، ممثلاً في مجموعة قيّمة من العروض في لبنان وخارجه أهمها: «الذباب» (1963)، و«الإزميل »، و«هاملت» (1964)، و«الملك يموت » (1965)، و«أوديب ملكاً » (1966)، و «علماء الفيزياء»، و«ملوك طيبة» (1966)، و«العادلون» (1967)، و«فاوست» (1968)، و«اعرب ما يلي» (1971)، و «المهرج» (1972)، و«أبو علي الأسمراني» (1974)، ولاحقاً على مسرح «كازينو لبنان »: «بربر آغا» (1981)، و«يوسف بك كرم » (1994)، و«صيف 840» (2010).
كانت نكسة الـ 1967 بالطّبع تحوّلاً فكرياً عامّاً لمعظم رواد الفكر والثقافة في لبنان والعالم العربي ومنهم كرباج الذي اتّجه متأثراً بها إلى المسرح السياسي، فقدّم مع عصام محفوظ وميشال نبعة مسرحية «الديكتاتور» (1969) التي عُدَّتْ رفضاً رمزياً قوياً لتلك الهزيمة الثقيلة الوطأة، وفتحتْ مجازاً رؤيويّاً لقابلية القول والشّغل على المسرح، أمكنتنا من فهم كرباج في نصاب شخصيته المنفعلة قومياً، وهي تأخذ قضايا مصيرية إلى صدارة المشهد الفرجوي بشغف المشاكس.
منذ عام 1968، دخل مرحلة الاحتراف التام مع الرحبانيين عاصي ومنصور وامتداداً لسنوات طويلة لاحقة، متخيّراً في أدواره الجانب الحِجاجي لتبرير تطلعات الإنسان وطموحاته في تجاوز أزماته الخاصة والعامة بالمقاومة والتحدي والنضال: يوسف بك كرم، ماكبث، هاملت، الملك، الشّخص، فاوست، أوديب، وغيرها من الشخصيات التي أطلق كرباج فيها نفسه فارساً على الخشبة، ممسرحاً كينونة الإنسان التي اختزنتها جماليات الفن المسرحي اللبناني بين العاطفة والعقل ووفقاً لأنساق وتوجهات الريبرتوارَين المحلي والعالمي.
إنه أحَدَ أهم مُطوّرِي الأداء في المسرح اللبناني الحديث، بل ربما رائدهم المخضرم، الذي كرّس موهبته في ماكينتَي الجسد والصوت، تحت سقف الحسيّ والتخييلي.
كان يحاولُ موازاة الحوار مع الحركة لا تغليبه عليها، مركِّزاً في الإلقاء على انسجام انفعالاته مع صوته، والقدرة المتماسكة في العبور بالكلمة إلى تقنيات العرض التي تخدم لعبة الحفاظ على الإيهام بالواقع، واقتناعه بأن كل حركة في المسرح هي إرادية مُختارة لها ثمنها من الإعداد والتركيز وقوة الإرادة والحضور ومن عشق الممثل الكبير للمسرَحَة، مالئاً بعمق فراغ الشخصيات التي يلعبها إذا ما أحسّ بجمودها في موقفٍ ما، لينقذ الإخراج، عفواً أو قصداً، من الرسوب في امتحان الرؤية الإبداعية.
في مثل هذا التصوّر، دائماً ما كنا مأخوذين غير ملتبسين في بلوغ مرادنا من جماليات الفرجة، ونحن نحملق في سقالات هذا الجسد المسرحي النادر، وقفته الفذّة على الخشبة، القامة الأسطورة والإحساس الشكسبيريّ، بطل الرؤى الممزقة بين الحبّ والكبرياء، الحامل والمحتمل لعناصر الدراما النفسية (البسيكودراما) في مزيج بارع من تقنيات الأداء بالصوت والصورة وفصاحة التعبير والنظرة والقسمات القوية، التي لا نكاد نعلم أنها تقاطعت لغةً وآفاقَ تشخيص في رجُلٍ سواه على امتداد العمل المسرحي والدراما التلفزيونية في الوطن العربي، مع ما حملت من تحولات ريادية في وظيفة الدور المسرحي بغضّ النظر عن مفهوم البطولة الذي يمثله على الخشبة.
بهذا المستوى، أعطى كرباج الفنّ اللبناني بعداً رسالياً متّزناً ونموذجية تشبهه، مسرحيةً وحيويةً معاً، جعلت منه هاملت «أكون أو لا أكون» في تحديات المسرح، حتى أصبح الملك من النص إلى العرض، مع ما قدر له أن يكونه، أباً شرعياً لفن التمثيل على «تلفزيون لبنان»، الذي دخله فاتحاً في منتصف سبعينيات القرن الماضي، من جان فالجان إلى المفتش الحكيم والحليم، وبربر آغا، وزوج ديالا التقليدي، وغيرها مما صنع من تحف فنية دائماً ما طَمْأَنتْ الجمهور في عمق إيمانه بأهمية طقوس الانتصار الدائم للإنسان وللوطن.