اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٥ أب ٢٠٢٥
في زوايا صامتة من عالمنا، يعيش كثيرون صراعًا لا يراه الآخرون، صراعًا داخليًا يمزّق الإدراك، ويبعثر التفكير، ويشوّه الواقع.
إنفصام الشخصية، أو ما يُعرف علميًا بالفُصام (Schizophrenia)، ليس مجرد حالة نفسية عابرة، بل هو اضطراب عقلي مزمن ومعقّد، يصيب الإنسان في عمق تكوينه العقلي والانفعالي والاجتماعي.
إنه اضطراب يفصل الفرد عن الواقع بطريقة مأساوية، بحيث يرى ويسمع ويعتقد أشياء لا وجود لها، ويتصرف غالبًا بطريقة لا يفهمها من حوله.
د.معاوية
لتسليط الضوء أكثر على هذا الموضوع حاورت «اللواء» المعالج والمحلل النفسي الدكتور مصطفى معاوية المقيم في الولايات المتحدة الاميركية، فكان الحوار الآتي:
- كيف تعرف لنا الفصام؟
«يُعتبر الفصام من أشد الاضطرابات الذهانية وأكثرها تأثيرًا على الحياة اليومية، ويصيب نحو واحد في المئة من سكان العالم. وهو لا يعني، كما يظن العامة، 'تعدد الشخصيات”،بل يشير إلى تمزق في العمليات النفسية الأساسية مثل التفكير والانتباه والإدراك والانفعال.
فالمريض لا يتقمص أكثر من شخصية، وإنما يفقد القدرة على التمييز بين الواقع والخيال، فتتشوه الصور في ذهنه، وتتحول الأفكار إلى شظايا يصعب الإمساك بها أو تنظيمها».
العوارض
- ماذا عن العوارض؟
«تبدأ أعراض الفصام غالبًا في آواخر سن المراهقة أو أوائل العشرينيات، وقد يتأخر الظهور لدى النساء مقارنة بالرجال. وتظهر الأعراض بشكل متدرج في كثير من الحالات، تبدأ بفقدان الشغف، والعزلة الاجتماعية، والبلادة الوجدانية، ثم تتطور إلى هلاوس سمعية أو بصرية، وضلالات راسخة يصعب دحضها، واضطراب في التفكير والسلوك.
قد يسمع المريض أصواتًا تهمس إليه، تأمره أو تنتقده، أو قد يعتقد أنه مراقب من قوى خارجية، أو أن أفكاره تُبث عبر التلفاز، أو أن هناك من يزرع أفكارًا في رأسه.
أما في الحالات الشديدة، فقد يدخل في حالة من الجمود الحركي أو السلوك الغريب غير المفهوم.»
الأسباب
- ما أبرز ألأسباب؟
«لا يوجد سبب وحيد للفصام، بل هو نتاج تفاعل بين عدة عوامل وراثية وبيولوجية وبيئية.
وفي هذا المجال ،تشير الدراسات إلى أن العوامل الوراثية تلعب دورًا قويًا؛ فوجود قريب من الدرجة الأولى مصاب بالفصام يزيد خطر الإصابة عشرة أضعاف.
وقد تم تحديد جينات معينة يُعتقد أنها تؤثر في تكوين الدماغ وتواصله العصبي، خاصة ما يتعلق بنقل «الدوبامين والسيروتونين»، وهما ناقلان عصبيان مرتبطان بالوظائف الذهنية والانفعالية.
كذلك، تشير دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي إلى وجود تغييرات في بنية الدماغ لدى المرضى، مثل تضخم البطينات الدماغية، وانخفاض في حجم الفص الجبهي والصدغي، وهي مناطق مسؤولة عن الحكم على الأمور، والتخطيط، وتنظيم المشاعر.
من جهة أخرى، تلعب العوامل البيئية دورًا لا يقل أهمية، كالتعرض لمضاعفات أثناء الولادة، أو العدوى الفيروسية داخل الرحم، أو سوء التغذية في فترة الحمل، أو التجارب الصادمة في الطفولة، فضلًا عن تعاطي المواد المخدرة، مثل القنب الهندي، الذي يُعد محفزًا قويًا لنوبات الذهان لدى المهيئين وراثيًا.»
العلاج
- ماذا عن العلاج؟
«الفصام قابل للعلاج والسيطرة، وإن كان من الاضطرابات المزمنة.
لذا يتطلب العلاج مقاربة متعددة الجوانب، تجمع بين الأدوية والعلاج النفسي والدعم الأسري والاجتماعي.
تجدر الإشارة أن الأدوية المضادة للذهان تشكل حجر الأساس في تخفيف الأعراض الذهانية، خاصة الجيل الثاني منها، والتي أثبتت فاعليتها مع آثار جانبية أقل من الأدوية التقليدية.
كما أن العلاج المعرفي السلوكي يساعد المرضى في تحسين الوعي بأعراضهم، والتعامل مع الأفكار المشوّهة، وتخفيف القلق المرتبط بها. إضافة إلى ذلك، تلعب برامج التأهيل المهني والاجتماعي دورًا محوريًا في تحسين نوعية الحياة، وتعزيز الاستقلالية، ومنع الانتكاسات».
المخاطر
- ما المخاطر في حال عدم العلاج؟
«الفصام يحمل في طياته مخاطر حقيقية إذا تُرك دون علاج. فقد يُعرّض المريض نفسه والآخرين للخطر، سواء من خلال السلوك غير المتوقع، أو بسبب الإهمال الذاتي الذي قد يؤدي إلى مضاعفات جسدية، أو حتى الانتحار، إذ تُظهر الإحصاءات أن ما يصل إلى 5% من مرضى الفصام ينهون حياتهم بأنفسهم، و20% يقدمون على محاولات انتحارية. كذلك، فإن استمرار الأعراض دون تدخل قد يؤدي إلى تدهور في القدرات العقلية والاجتماعية، وإلى عزلة قاسية تنقطع فيها الروابط مع المجتمع والعائلة والعمل.»
- هل الفصام حالة ميؤوس منها؟
«أهم ما يجب تسليط الضوء عليه هو أن الفصام ليس حالة ميؤوسًا منها كما يظن البعض.
فالعلاج المبكر، والالتزام بالدواء، وتوافر الدعم النفسي والاجتماعي، يمكن أن يحسن بشكل كبير من الحالة المرضية.
فهناك نسبة من المرضى تُقدر بحوالي 20 إلى 25 بالمئة يمكن أن يعيشوا حياة شبه طبيعية ويحققوا تعافيًا وظيفيًا جيدًا.
حتى في الحالات الأخرى، يمكن تقليل شدة الأعراض، وتمكين المريض من الاستقلال النسبي.
كل ذلك يتوقف على عوامل عدة، منها توقيت التشخيص، وطبيعة البيئة الداعمة، ومدى تعاون المريض مع خطة العلاج.»
الوقاية
- هل من سبل للوقاية؟
«الوقاية الكاملة من الفصام قد لا تكون ممكنة بسبب الطابع الجيني القوي، ولكن يمكن تقليل احتمالية ظهوره من خلال تجنب تعاطي المواد النفسية، وتقديم الدعم النفسي في مراحل الطفولة والمراهقة، ورصد العلامات المبكرة للاضطراب، خاصة في العائلات التي تحمل تاريخًا وراثيًا.
باختصار، فإن انفصام الشخصية لا يجب أن يُعامل كوصمة، بل كحالة طبية إنسانية تحتاج إلى رعاية مستمرة وفهم عميق وتعاطف حقيقي. المجتمع، والأسرة، والاختصاصيون، جميعهم شركاء في رحلة العلاج. والعلم لا يزال يتقدم كل يوم في فهم هذا الاضطراب المعقّد، سعيًا نحو التخفيف من ألمه، واستعادة من فقدوا بوصلتهم في دروب الحياة.»