اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ٢٩ تشرين الأول ٢٠٢٤
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.
عندما عمد الخليفة الرابع علي ابن أبي طالب، إلى رأب الصدع في جيشه بعد انشقاق من سموا بالخوارج، كان مطلبهم حينها أن 'لا حكم إلا لله'، وهذا يكون بالإحتكام إلى 'كتاب الله' الذي هو القرآن. ما يعني رد كلَّ فعلٍ سياسي إلى الله، والعودة إلى ما يقوله القرآن في مجال القرار السياسي، المتعلق بالتدبير العام وإدارة شؤون المجتمع، معتبرين أن القرآن يحمل أجوبة مفصلة وتوجيهات مسبقة ودقيقة، لكل ما يتعلق بقرارات السلطة والشأن العام، بما في ذلك أجوبة مباشرة لأحداث زمانهم ومشاكلهم.
القرآن لا يمكنه أن يوفر بنحو مستقل ومباشر أية حلول، أو يحسم أي جدل كونه حمَّال أوجه، أي إن محتملات المعنى فيه مفتوحة ولا متناهية، ولا يمكن ترجيح معنى على آخر بالإستعانة بالقرآن لوحده، بل يحتاج إلى محددات وضوابط من خارج القرآن
هو مطلب اعتبره علي بأنه 'كلمة حق يراد بها باطل'. أي شعار جذاب ومحق بظاهره، إلا أن حقيقته باطلة ولا أساس منطقي له. أي صحيح في الشكل وخاو في المضمون، أو إذا شئت شعار محق في فكرته المبدئية، بإرجاع كل شيء إلى الله، لكن منطلقاته مضللة وغاياته وهمية ومعانيه زائفة. بحكم أن الاحتكام المطلق والمباشر إلى 'كتاب الله' غير ممكن بنظر علي، عملياً ونظرياً، للفصل في القضايا المعقدة والخلافية التي طرأت في زمانه.
ذلك لجهة أن القرآن لا يمكنه أن يوفر بنحو مستقل ومباشر أية حلول، أو يحسم أي جدل كونه حمَّال أوجه، أي إن محتملات المعنى فيه مفتوحة ولا متناهية، ولا يمكن ترجيح معنى على آخر بالإستعانة بالقرآن لوحده، بل يحتاج إلى محددات وضوابط من خارج القرآن.
إقرأ أيضا: أرهقتنا أخبار الموت.. أخرجونا من هذه الحرب رحمة بمن بقي!
فكأن القرآن زمن النبي كان سيد نفسه، لانبثاقه وتشكله من قلب الحدث النبوي، ويتناول مسائل وموضوعات عينية بنحو مباشر وصريح، أما بعد النبي ومع طروء مستجدات ومتغيرات لم يتناولها القرآن مباشرة ولم ينص عليها، فإن الموقف القرآني من هذه المستجدات، لا يمكن الكشف عنه بظاهر لفظ القرآن، وإنما بفعل عمل تأويلي واجتهادي، أي بفعل نشاط ذهني وأطر عقلية ومنهجيات معرفية مسبقة.
ومع طروء مستجدات ومتغيرات لم يتناولها القرآن مباشرة ولم ينص عليها، فإن الموقف القرآني من هذه المستجدات، لا يمكن الكشف عنه بظاهر لفظ القرآن، وإنما بفعل عمل تأويلي واجتهادي، أي بفعل نشاط ذهني وأطر عقلية ومنهجيات معرفية مسبقة
وقد عبر الخليفة الرابع علي عن ذلك صراحة بقوله، أن القرآن: 'خط مسطور بين دفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، إنما ينطق عنه الرجال'. أي أن القرآن لا يمكن أن يوفر حكماً حاسماً في الأمور المستجدة بعد النبي، كونها غير منصوص عليها، ولا يعين حكمها إلا بعملية اجتهادية ونشاط ذهني يمارسه الناس. وهو أمر يتطلب بنية تفكير تقوم على جملة بديهيات ومسلمات لا بد أن تسبق عملية الاجتهاد. فإذا كان القرآن زمن النبي، ناطقاً بذاته ويدلي بمعانيه ومقاصده مباشرة، فلا بد بعد النبي من استنطاقه بحسب قول علي: 'ذلكم القرآن فاستنطقوه'، أي لم يعد بامكان القرآن أن يفصح عن نفسه كونه يخاطب زماناً غير زمانه، ولأنه كذلك، فلا يمكن أن يظهر مراده وموقفه من الأحداث المستجدة غير المنصوص عليها، إلا بفعل بشري من خارجه وفق قواعد ومنهجيات، لم تتبلور بعد في أذهان المسلمين زمن علي. ما جعل الاحتكام إليه زمن علي محلاً لمزيد من الانقسام والشقاق والفرقة.
عبر الخليفة الرابع علي عن ذلك صراحة بقوله، أن القرآن: 'خط مسطور بين دفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، إنما ينطق عنه الرجال'. أي أن القرآن لا يمكن أن يوفر حكماً حاسماً في الأمور المستجدة بعد النبي، كونها غير منصوص عليها
هذا يفسر قول علي لابن عباس حين أرسله لمحاججة الذين انشقوا عليه: 'لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه'. ما يشي بأن القرآن لم يعد بذاته مرجعية لحسم الخلافات، أو البت في القضايا التفصيلية، لكونه يخاطب زماناً غير زمانه، ولا بد لإظهار مراده وغرضه في زمان آخر، من تأطير معرفي ومسبقات عقلية وآليات منهجية، تكون بمثابة جسر عبور النص القرآني من زمانه إلى زمان آخر.
بالتالي، لا يعود القرآن منطلقاً لتأسيس واقع سياسي أو ثقافي معين أو حدث إجتماعي، بل يكون مواكباً له ومتكيفاً معه. فإذا كان القرآن مولداً وخالقاً لواقع جديد في زمان النبي، فإن القرآن سيكون بعد النبي لاحقاً على أي واقع، أي لا يكون منتجاً له بل مستجيباً ومواكباً له. بالتالي يكون الشرط الإنساني سابقاً على القرآن، بعدما كان زمن النبي من ملحقاته وتوابعه.
وقد قدم علي فهماً جريئاً، بل متقدماً، لمسألة السياسة والحكم، التي اعتبرها منتجاً عقلياً وتاريخياً لا منتجاً دينياً. فتجده يفند شعار المنشقين عليه: 'لا حكم إلا لله'، بأنه شعار غرضه ومؤدياته لا اللجوء إلى الله، بل نفي حقيقة الحكم والسلطة والنظام العام، أي الفوضى التامة.
أي إن مجرد الدعوة إلى أن يكون الله حاكما، والذي هو للأسف عماد وركيزة الإسلام السياسي المعاصر، هو بذاته دعوة إلى الفوضى واللانظام. يقول علي 'هؤلاء يقولون لا إمرة'. وفي ذلك إشارة قوية إلى أن حكم الله مسبوق بشرط بشري، ومجرد إطلاقه من دون توفر شرطه البشري وظرفه الموضوعي، فهو مدعاة للفوضى والعبث.
قدم علي فهماً جريئاً، بل متقدماً، لمسألة السياسة والحكم، التي اعتبرها منتجاً عقلياً وتاريخياً لا منتجاً دينياً. فتجده يفند شعار المنشقين عليه: 'لا حكم إلا لله'، بأنه شعار غرضه ومؤدياته لا اللجوء إلى الله، بل نفي حقيقة الحكم والسلطة والنظام العام، أي الفوضى التامة
هنا يعمد علي إلى تأسيس طرح مواز ومناقض لشعار 'لا حكم لله'، الذي هو شعار ظاهره محق وباطنه مدمر وعبثي، بالقول أن السلطة والحكم، لا يستند قيامهما وضرورتهما على أساس ديني وإنما عقلي. فالعقل هو الذي يحكم بضرورة السلطة، وتدبير هذه السلطة وآلية القرار فيها، تفرضها المعطيات الموضوعية والشروط التاريخية. وهذا تأكيد من علي، بأن مشروعية الفعل السياسي ليست دينية من الاساس بل عقلية. تبدى ذلك في قوله المشهور: 'لا بد للناس من أمير بر أو فاجر'.
واللابدية هنا نابعة من العقل لا الدين، وضرورتها لازمة حتى لو كان على رأسها أمير فاجر. ما يشي في قوله 'أو فاجر' بالفصل القاطع بين الموجب الأخلاقي والموجب العقلي للسياسة، لجهة أنها ضرورة عقلية حتى لو لم تستوفِ شروطها الأخلاقية ونصابها التقوي.
هي سلطة يؤكد علي على أنها ضرورة للمسلم وغير المسلم على حد سواء: 'يعمل في أمرته المؤمن' و'يستمتع فيها الكافر'، لأن الإمارة بذاتها مع قطع النظر عن شخص الحاكم، ضرورة عقلية لأجل أن 'يبلغ الله فيه الأجل' أي تتحقق عبرها مقاصد الله التكوينية في خلقه، و'يجمع به الفيء' أي تتحقق المصالح الاقتصادية العامة، و 'يقاتل به العدو' لضمان الأمن والحماية العامين، و'تؤمن به السبل' أي ضمان الاستقرار والأمان الداخليين، و'يؤخذ به للضعيف من القوي' ما يحقق العدالة، وتحفظ حقوق الضعفاء قبل الأقوياء، و'يستريح بِرٌ ويُستراح من فاجر' أي منع جميع وجوه الجريمة ليعم الأمن والأمان بنحو دائم في المجتمع.
ما فعله علي، أنه فصل حقيقة السلطة عن الموجب الديني والضرورة الأخلاقية، واعتبر أن ضرورتها ذاتية، أي تقصد لذاتها، مهما كانت مآزقها الأخلاقية ودرجة مخالفتها لأحكام الدين
نحن أمام رؤية، تَبصَّر معاملها الخليفة الرابع في زمن محنته القصوى، الذي ووجه بشعارات دينية متشددة، ودعوات الإحتكام إلى النص القرآني، بأن قابلها بالإحتكام إلى العقل، والموجبات المنطقية لقيام السلطة وإدارتها، على أساس التفكير العقلاني السليم. ما فعله علي، أنه فصل حقيقة السلطة عن الموجب الديني والضرورة الأخلاقية، واعتبر أن ضرورتها ذاتية، أي تقصد لذاتها، مهما كانت مآزقها الأخلاقية ودرجة مخالفتها لأحكام الدين. وأخذ يُفصِّل مهامها تفصيلا عقلياً لا دينياً، ليؤكد أن المدار في صحة أو صوابية إدارة الشأن العام وإجراءات السلطة، أو الإمامة الكبرى بحسب التعبير الفقهي، هي عقلية محض وثمرة التجربة الإنسانية.
بالتالي يكون الحَكم الفصل في كل النزاعات السياسية، هو التدبر العقلي والاختبار الإنساني، الذي يراكم التجربة العقلية ويصوبها، لا الاحتكام إلى النص الديني أو الرجوع إليه، الذي أصر علي على عدم مرجعيته في نشوء السلطة، عدم دخالته في حقيقتها، وعدم صلاحيته في فض أي نزاع أو خلاف.
هو موقف دفع علي ثمنه غالياً، وكان أولى حصون القول العقلي وشهدائه في آن، الذي قابل القول الاصولي الداعي إلى مرجعية النص الديني، في تأسيس شرعية السلطة وآلهنة مسارها وتدبيرها، بقوله أنها فعل بشري خالص، توجهه موجبات العقل وتصوبه تراكمات الخبرة البشرية.
إقرأ أيضا: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: هل يمكن تفكيك متراس ايران في لبنان؟!
تكاد محنة علي تكرر نفسها في واقعنا الراهن المتخم بالاستعمالات القرآنية، لشرعنة مشاريع السلطة، وتسويغ النشاط السياسي، ما يتسبب بضمور العقل وحتى استقالته، لتستحيل الحياة السياسية إلى فعل طاعة وتسليم وعبودية، لا فعل تفكر وابتكار وحرية…. للحديث تتمة.