اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٦ نيسان ٢٠٢٥
المؤرّخ والكاتب السياسي د. حسن محمود قبيسي
في مراجعة ونقد ذاتي لمسيرة شعبنا على مدى مئة سنة وتزيد، وبعد خمسين عاماً على وقف الحرب الأهلية المدولة في بلادنا وعليها، دون التخلّص من دوافعها ومسبباتها وأسبابها، نتوقف أمام محرّكاتها والمقدمات والتداعيات الناجمة عنها، لا لتراشق التهم، فلا مسؤولية مطلقة ولا نكبة أو نكسة لفئة لبنانية دون غيرها في ما نزل بلبنان من أقصاه إلى أقصاه، وإن تفاوتت النسب، وبالتالي لا ندين مكوّناً بعينه ولا نتعاطف مع الآخر، فـ«الكل في الهمّ شرق».
شكا المسلم من الغبن والحرمان، حتى ضُرِبَ المثل بالتعاطي الرسمي الدوني مع جنوبي لبنان؛ فاحتجّ النائب جورج عقل في مجلس النواب: «يبدو أن منطقتي (جبل لبنان) تُعامل وكأنها من أقاصي الجنوبي».
وتذرّع الماروني باضطهاد كان وليد ظروفه وعصره، ويرى في الإمتيازات ضمانات، ويشكو - كما لبنانيون - من تجاوزات الفلسطيني الذي شعر بفائض قوة بعد عقدين من الاضطهاد.
نراجع في صحوة ضمير؛ كي لا يصير مستقبلنا استمراراً لماضينا بمآسيه ودمويته. ولقناعتنا بعد كل ما شهدت المنطقة وشهد لبنان تأثراً وتأثيراً؛ بما قاله رئيس وزراء النمسا الأمير كليمنس مترنيخ بعد الاضطرابات في جبل لبنان الجنوبي 1861: «هذا البلد الصغير الذي هو بمنتهى الأهمية ... إن الأمن والاستقرار في هذه الولاية الصغيرة (جبل لبنان) لا يؤمّنان الأمن والاستقرار فيها وحدها، بل حتماً فيها وفي الجوار والشرق الأوسط وربما العالم. والعكس صحيح».
*****
من الدوافع الداخلية: مسببات وأسباب
ومن تلك الدوافع والمسببات إلى الأسباب وما أكثرها: انحياز رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق كميل شمعون للمخططات الأميركية بعد البريطانية منذ العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الصهيوني على مصر 1958، والأحلاف والمشاريع الغربية.
انقلاب المارونية السياسية على إصلاحات الرئيس اللواء فؤاد شهاب الإدارية و التنموية بعد نكسة 1967، والصدامات العسكرية بين القوات المسلحة اللبنانية وفصائل من المقاومة الإسلامية التي عُلِقت بعد اتفاقية القاهرة 1969، وبعدها خفت الصوت الطائفي ففاز مرشحين يساريين في انتخابات 1972، وتراجع انتشار القوى الطائفية ونفوذها.
وفي الأزمات الاجتماعية في السنوات الأولى من ولاية الرئيس سليمان فرنجية:
تظاهر عمال معمل غندور في 17/12/1972 مطالبين بزيادة أجورهم بعدما أقرّتها الدولة، وتطوير الصناعة المحلية والحدّ من استيراد المصنوعات الأجنبية، فقمعتهم السلطة وسقط شهداء وجرحى.
وتظاهر مزارعو التبغ وأضربوا من 2/1 حتى 24/1/1973 لرفع ثمن محاصيلهم واستلامها في مواعيدها بعدما رفضت شركة التبغ والتنباك ذلك في 2/12/1972، وسقط المزارعان حسن الحايك ونعيم درويش شهيدين.
وتظاهر معلِّمو المدارس أواخر آذار/ مارس وبداية نيسان/ أبريل 1973 لزيادة أجورهم وإنشاء كليات تطبيقية في الجامعة اللبنانية وتعريب المناهج. فحلّت السلطة اللبنانية روابط المعلمين الرسميين وطردت أكثر من ثلاثمائة معلم.
وتظاهر صيَّادو الأسماك في صيدا بقيادة النائب السابق معروف سعد في 26/2/1975 ضد احتكار شركة بروتين للصيد البحري على مسافات الشاطئ القريبة ومنعهم من ذلك. فتصدَّى لهم الجيش بالرصاص الحيّ وسقط شهداء وجرحى في طليعتهم معروف سعد.
كان اغتيال معروف سعد السطر الأول في كتاب تفجير الأزمة 1975 - 1990.
رأى الإمام موسى الصدر في تلك الحركات والتحرّكات مخاضاً لثورة شعبية قادمة لا محالة؛ فأعلن قيام حركة المحرومين في 29/3/1975 في مهرجان تعمّد إظهار السلاح فيه. ودحضاً لكل تفسير خطأ حدَّد دور السلاح بين أيدي الشيعة: «إن على أبناء الطائفة الشيعية أن يحملوا السلاح في مواجهة ثلاثة احتمالات هي: تصفية المقاومة الفلسطينية والتقسيم واحتلال الجنوب».
متعهداً بالنضال الديمقراطي: تظاهرات - مهرجانات - إضرابات - عصيان مدني – استقالات جماعية لتحقيق حرية المواطن ورفع الظلم وتحقيق العدالة الإجتماعية الشاملة التي هي «أولى واجبات الدولة» التي عليها أيضاً «توفير الفرص لجميع المواطنين التي هي أبسط حقوقهم» ومحاربة كل أنواع الظلم من استبداد وإقطاع وتسلّط وتصنيف مواطنين. محاربة بلا هوادة. محذّراً الحكام: «اعدلوا قبل أن تبحثوا عن قصوركم في مزبلة التاريخ».
في 6/3/1975 تسللت قوة من فدائيي «قوات العاصفة» الجناح العسكري لحركة «فتح»، وأطلقت النار فسقط ما بين (50 إلى 100) من الجانب «الإسرائيلي» ما بين جندي وضابط وجرح ما يزيد عن 150 جنديا وضابطا ومن ضمن القتلى العميد في الجيش عوزي يئيري أحد أكبر ضباط الاستخبارات الذي قاد عملية فردان في 10/4/1973وأدّت إلى اغتيال القادة الثلاثة: كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، وإلى أزمة حكومية استقال على أثرها الرئيس صائب سلام. واعترف رئيس الوزراء الصهيوني إسحق رابين في 14/3/1975 بالعلاقة بين الكيان الصهيوني وبين قوى وشخصيات لبنانية: «إن لنا أصدقاء داخل لبنان سيقومون بالردّ على الفدائيين». بعدها بوقت قصير رفع حزب الكتائب شعار: «تقسيم لبنان وإقامة الدولة المارونية».
في 11/8/1975 اكتشفت معسكرات تدريب لـ «الرابطة المارونية» تُخرِّج كل أربعة أيام اختصاصيين في حرب العصابات.
أيلول/ سبتمبر 1975: اتفاقية سيناء وانعكاساتها اللبنانية.
في الدوافع الإقليمية والدولية
صحيح أن لبنان لا ينفرد بالتنوّع والتعددية إلّا أنه ناسه وحدهم بين كل دول المنطقة، بينهم من كل مذاهب الطوائف الدينية الموجودة في محيطها المؤمنة والملحدة، ومن كل الخلفيات السياسية و الحزبية، وأنه الأكثر انفتاحاً - باستثناء الكيان الصهيوني - على الغرب، ووحده يجاريه بانتقال سلس للحكم الديموقراطي وللرئاسة الأولى، فلا أسرة حاكمة ولا حزب حاكم لمدة أطول من عهد رئاسي، ولا انقلابات عسكرية؛ فيه ديموقراطية نسبية جعلته مقصداً للمضطهدين مذهبياً أو سياسياً، فكان الانقسام العامودي والأفقي لناسه حول الموقف من الوافدين واللاجئين والنازحين منذ 1948 مروراً باستقبال المصريين الفارّين من انتقام الانفصاليين السوريين سنة 1961، إلى تموضع الفصائل الفلسطينية في جنوبه ومناطق أخرى بعد مذابح الأردن في أيلول/ سبتمبر سنة 1970. ومقصداً للمستثمرين والمستفيدين من نظامه الاقتصادي بخصائصه وعيوبه، ونظامه المصرفي. فصار جامعة العرب ومشفاهم ومصرفهم ومصيفهم ومقصدهم، ومنبراً إعلامياً لدول عربية وأجنبية حتى قال الرئيس شارل حلو لصحافيين في مطار بيروت: «أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان».
تعقّدت الأمور أكثر، تفاقمت الأمور مولّدة أزمات تداخل المحلي فيها مع الإقليمي، عندما حاولت بعض المنظمات الفلسطينية إيجاد ساحة بديلة عن الأردن ولها حدود مع فلسطين المحتلة، متجاهلةً الفوارق الديموغرافية بينه وبين لبنان، من حيث أن نصف المملكة الأردنية مقتطعة من فلسطين ونصف الشعب الأردني فلسطيني الأصل، وأن الوجود المسلّح الفلسطيني في لبنان لن يكون موضع قبول كاسح؛ نتيجة الانقسام العامودي المتجذّر حول هوية لبنان ودوره في المنطقة.
للعدو الصهيوني أطماعه المعلنة في لبنان.
النظام السوري يريد «استرجاع لبنان» الذي قام ككيان سياسي قبل نظيره السوري بأكثر من 12 سنة، بحجة أن أراضي من لبنان كانت تابعة لولاية الشام أو ولاية حلب، علماً أن أراضي من الجمهورية العربية السورية اليوم: كانت تابعة لولاية طرابلس أو ولاية بيروت.
والنظام في العراق يحاول إضعاف النظام السوري، والعقيد الليبي معمر القذافي يسعى لوراثة زعامة جمال عبد الناصر.