اخبار لبنان
موقع كل يوم -صحيفة الجمهورية
نشر بتاريخ: ٢ حزيران ٢٠٢٥
كتبت جوسلين إلياس معلوف
في وطنٍ تمزّقه الأزمات وتضيّعه الذاكرة الجماعية، ينهض رجل من بين الركام كصوتٍ مسرحي لا يُشبه إلا ذاته، ليُعيد تشكيل الروح اللبنانية على خشبةٍ تعاند الموت بالصوت والصدى. إنه رفعت طربيه، ابن اللقلوق، و'الأمير المجنون” الذي لم يجنّ إلا حبًّا بوطنه وبفنّ لا يموت. في مساءٍ من مساءات بيروت النادرة التي ما زالت تنبض بالحياة، اعتلى رفعت طربيه خشبة المسرح في السراي الكبير، مقدمًا “هاملت” أمام جمهور غصّت به القاعة، وبرعاية مباشرة من دولة الرئيس نواف سلام، في لحظة تختزل العمر كلّه.
عندما بلغني خبر هذه المبادرة، لم أشعر فقط بالفخر بقامةٍ من بلادي، بل كصديقة لهذا العملاق الذي لطالما عرفت قدره قبل أن تتسابق الأضواء على تكريمه. لم يُفاجئني المشهد، بل بدا لي كأمرٍ تأخّر كثيرًا؛ لأن رفعت لم يكن يومًا بحاجة لوسام يثبت ما يعرفه كل من لمس فنه عن قرب.
من اللقلوق إلى بعلبك… سيرة فنان لا يهدأ
وُلد رفعت طربيه عام 1948 في قرية اللقلوق الشاهقة، وبدأ رحلته في المسرح من قلب الحركات الثقافية في لبنان. شارك في تأسيس مشهد مسرحي نخبوي عبر مجلات كـ”شعر”، وانخرط في نشاطات “الحركة الثقافية - أنطلياس”. تمرّس في الأعمال الكلاسيكية، لكنه أضفى عليها بُعدًا لبنانيًا إنسانيًا مؤلمًا، فكان أداؤه للشخصيات الكبرى كـ”هاملت” و”الملك لير” ليس مجرد تمثيل بل إعادة خلق لوجع الإنسان في وجه الاستبداد والفساد والخذلان.
مهرجانات بعلبك والبطولة الصامتة
لم تكن مشاركاته في مهرجانات بعلبك مجرّد ظهورٍ مسرحي، بل كانت إعلان ولاء للهوية الثقافية اللبنانية. وقف طربيه هناك على مدرجات التاريخ، إلى جانب عمالقة الفن من هدى حداد إلى فرقة كركلا، ممثلاً الكلمة الحرة والحلم الذي لا يُقهر. في كل عرض، كان يزرع خشبة المسرح بحضوره الطاغي وصوته العميق، مُجسّدًا وحدة الإنسان، المسرح، والوطن.
“الأمير المجنون” في السراي… لحظة اختلط فيها الفن بالسيادة
حين قُدّمت مسرحية “الأمير المجنون” - المُعدّة عن “هاملت” - داخل السراي الكبير، لم يكن الحدث عاديًا. لم يكن عرضًا فنيًّا فحسب، بل محاكاة لصراع لبنان مع الجنون السياسي، حيث جسّد رفعت طربيه، بهدوئه الهادر، وجع شعبٍ كامل. في ظلّ رعاية رئيس الحكومة نواف سلام، بدا المشهد وكأن المسرح اقتحم السلطة، لا ليخضع لها، بل ليُذكّرها بأن في البلاد من لا يزال يؤمن بالثقافة كمحرّك خلاص.
وسامٌ على القلب قبل الصدر
بعد العرض الأخير، وعند انحناءة الختام، صعد رئيس الحكومة شخصيًا إلى الخشبة، وألبس رفعت طربيه وسامًا تكريميًا وسط تصفيقٍ حارٍ لم يتوقف. دمعت عينا رفعت، لا من التعب، بل من الامتلاء. كان ذلك الوسام تتويجًا لمسيرة عمر بأكمله، لكنه بدا صغيرًا أمام عظمة رجل حمل وطنه على كتفيه كما حمل هاملت جمجمته، متسائلاً: “أن تكون أو لا تكون؟”… وها هو، بعد كل هذه السنوات، يجيب: “كنت… وما زلت.”
عندما علّقوا على صدره وسامًا، كان هو من يُعلّق على قلوبنا جميعًا لحظة نادرة من الصدق الفني. صديقي رفعت، كنتَ نبيًّا على هذه الخشبة، وكم أنا فخورة أنك كنت ولا تزال، لا فقط صديقًا ، بل مرآةً حقيقية للكرامة الفنية والثقافية في زمنٍ قلّ فيه الكبار.