من قِبلة الثوار إلى غزة.. فلسطينيون مقيمون في الجزائر توقدهم نار البلاد

من قِبلة الثوار إلى غزة.. فلسطينيون مقيمون في الجزائر توقدهم نار البلاد

منذ بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع، أصبحت يوميات الفلسطينيين في الجزائر معلقة بين شاشات التلفزيون والجوال على مدار الساعة يتابعون ما يدور من أحداث، يترقبون أخباراً تنعي إليهم أحباءهم، وفيديوهات تطلعهم على عمليات المقاومة.

'بنتي اللي رزقني فيها الله بعد ثماني سنين ما قدرتش أفرح فيها'، 'صارلي خمس شهور ما بنام زي الناس ولا آكل وأشرب مثل الناس كأني ميت وأنا حي'، 'أمي وأبوي توفوا من سنين وما قدرتش أشوفهم وأخوتي كلهم استشهدوا.. كل اللي بتمناه إني أروح على غزة أشوف اللي باقيلي من ريحة أهلي قبل ما الله ياخذ أمانته'، 'حياتنا ما صار لها معنى من كثر ما شفنا من مجازر.. لكن أحداث السابع من أكتوبر كانت بصيص أمل وسط حالة يأس تمر بها أمتنا العربية'.. هكذا هي مشاعر الفلسطينيين المقيمين في الجزائر، يجمعهم على اختلاف أعمارهم وحكاياتهم الوجع ذاته، أجسادهم هنا وقلوبهم هناك تنزف في غزة.

فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع، أصبحت يومياتهم معلقة بين شاشات التلفزيون والجوال على مدار الساعة يتابعون ما يدور من أحداث، يترقبون أخباراً تنعي إليهم أحباءهم، وفيديوهات تطلعهم على عمليات المقاومة من قنص جنود الاحتلال وتدمير آلياتهم، ويتطلعون لإعلان هدنة إنسانية أو فتح معبر أو دخول قافلة إغاثة تخفف مأساة النازحين.

أكثر من 6 آلاف فلسطيني مقيم في الجزائر

يقدّر عدد أفراد الجالية الفلسطينية المقيمة في الجزائر بنحو 6 آلاف، أغلبهم من غزة، ضمنهم ألفي طالب جامعي، 660 منهم ينحدرون من القطاع، بحسب رئيس رابطة الجالية الفلسطينية في الجزائر حمزة الطيراوي.

وتشكل عائلات المعلمين المتقاعدين الذين قدموا إلى الجزائر عقب استقلالها في ستينيات القرن الماضي أغلبية الجالية الفلسطينية، ويحمل عدد منهم ومن أبنائهم وأحفادهم الجنسية الجزائرية.

بالإضافة إلى قدماء المقاومين في منظمة التحرير الفلسطينية ممن اختاروا الجزائر بلد إقامة دائمة، في ظل فرض الاحتلال عليهم سياسة الإبعاد عن فلسطين ومنعهم من دخول أراضيها.

حياة بتوقيت غزة

آية بركة، غزاوية مقيمة في الجزائر منذ ست سنوات، قبل أسبوعين من عملية 7 أكتوبر رزقت بطفلتها الأولى بعد ثماني سنوات من الزواج، لكن فرحتها لم تعمّر طويلاً حتى نغّصها العدوان على غزة، ليصبح كل همها الاطمئنان على عائلتها هناك.

تقول آية لـلميادين نت إن قلبها لم يعد فيه متسع ليسعد برضيعتها التي طال انتظارها، فقد ملأه الحزن على من استشهد من عائلتها في القطاع، وكذلك الهواجس من ارتقاء المزيد منهم إما قصفاً أو جوعاً. وإن حياتها انقلبت رأساً على عقب وأصبحت كل أيامها متمحورة حول الأخبار.

'طوال الليل والنهار وأنا أتنقل بين قنوات التلفزيون والتيلغرام لمعرفة المستجدات.. كل عائلتي في جنوب قطاع غزة، بعضهم وجد خياماً تؤويهم وآخرون مشردون في العراء.. يكاد يقتلني القلق عليهم، أنا هنا لكن عقلي وروحي وقلبي معهم'، وفق آية.

لا يقل حال أحمد بركة (42 عاماً) عن حال زوجته آية سوءاً، فما عدا والده المقيم في الجزائر منذ 1967 ووالدته المقيمة فيها منذ 1973، وكلاهما معلمان متقاعدان، فإن كل عائلته في قطاع غزة.

في حديث لـلميادين نت يقول أحمد: 'والله لم يعد لحياتنا معنى ولا طعم، فقد استشهد من عائلتي عشرة أفراد في أول أيام العدوان و15 فرداً في اليوم الثاني إثر قصف منزلهم.. أهلي من الدقات في منطقة الشمال، وعند بداية كل اجتياح يكونون أول الضحايا، لقد نزحوا من عبسان إلى منطقة حمد، ثم عادوا إلى خان يونس، ثم هجّروا قسراً إلى المواصي وبعدها إلى رفح، والآن سيرجعون إلى المواصي حيث يتم استهداف خيام النازحين'.

عاش أحمد سابقاً عدوان 2014 من قلب غزة، وقضى أياماً نازحاً في مسجد السنية في خان يونس، غير أن معايشة العدوان من خارج القطاع أشد قسوة حسبما يؤكده لـلميادين نت: 'عندما تكون وسط القصف والدماء والدمار صحيح أنك تصبح مجرّداً من المشاعر و تفقد نكهة الحياة، لكن على الأقل أنت تقاسم أهلك المعاناة، ولست مجرد مشاهد عاجز وبعيد يتفرّج على مأساتهم من وراء الشاشة'.

المهاجرون الأوائل.. تلملمهم الجزائر وتطوي أعمارهم التغريبة

زار الجزائر أول مرة طالباً سنة 1966، ثم عاد إليها عام 1967 معلماً مقيماً واستقر فيها لغاية اليوم، يتحدث محمد صالح زقلام (78 عاماً) رئيس اتحاد المعلمين الفلسطينيين في الجزائر للميادين نت عن اختياره الإقامة في هذا البلد، قائلاً: 'كنت موظفاً في وكالة الأونروا في قطاع غزة، لكني جئت بمحض إرادتي إلى الجزائر التي كانت تفتح أبوابها للقوى التقدمية الفلسطينية ومنظمة التحرير.. أردت أن أقدم شيئاً لوطني كان تقديمه مستحيلاً داخل قطاع غزة التابعة آنذاك للإدارة المصرية'.

برغم أنه يعتبر الجزائر وطناً ثانياً يخفف عنه مرارة الإبعاد عن فلسطين، إلا أن جراح النكبة ظلت محفورة في ذاكرته: 'كان عمري عامين حين هجرت عائلتي من مدينتنا يافا سنة 1948، إلا أن صوت السفينة التي شقت البحر من مرفأ يافا إلى بور سعيد المصرية، قبل نقلنا إلى غزة لا يزال يتردد في أذنيّ بعد كل هذه السنوات ليذكرني دائماً من أين أتيت'.

مواجع 'الشيخ الفلسطيني' (تعني المعلم أو الأستاذ)، كما يلقبه أبناء مدينته في 'خميس الخشنة' شرق العاصمة، تقلبها الحروب المتكررة على قطاع غزة، خاصة وأنه من المبعدين المحرومين من حق العودة: 'توفي والداي منذ سنوات واستشهد جميع أخوتي من دون أن أتمكن من توديعهم أو حضور جنائزهم وعزائي الوحيد أني أحتسبهم من الشهداء.. أشدّ ما أتمناه الآن هو الذهاب إلى غزة ورؤية من بقي من أهلي قبل أن يقبض الله روحي، فلم يعد في العمر بقدر ما مضى'.

من جهته، قال رئيس رابطة الجالية الفلسطينية في الجزائر حمزة الطيراوي للميادين نت كيف أثرت المجازر الإسرائيلية على حياته وجعلتها خالية من أي روح أو طعم، لكن ذلك لا يغطي على كون 'معركة طوفان الأقصى كانت بصيص أمل وسط حالة يأس شديد يمر بها المجتمع العربي، في ظل تغييب القضية الفلسطينية واستمرار ممارسات الاحتلال الاستعمارية والإرهابية، حيث أعادت الاهتمام بالقضية وبمبدأ إقامة دولة فلسطين'.

لو كنت هناك لتقدمت صفوف القتال

برغم عوامل السن والصحة والإبعاد إلا أن المقاومة تظل شعلة متقدة في قلب كل فلسطيني، حيث يقول محمد زقلام: 'لو أتيحت لي فرصة دخول غزة لن أتردد في سني هذا عن حمل السلاح بوجه العدو.. المقاومة تعبر عن آمال وطموح الشعب الفلسطيني المزروع على هذه الأرض منذ آلاف السنين، ولن يسمح بأن تكون فلسطين أبداً أرضاً لشعب بلا وطن ولو كلفه ذلك روحه'.

من جهته، يؤكد حمزة الطيراوي أنه لو أتيحت له الفرصة لكان في الصفوف الأولى للمرابطين والمجاهدين في فلسطين.

أما عن اختياره الجزائر التي يقيم فيها منذ 23 عاماً، يقول الطيراوي المنحدر من 'طيرة الدندن' في يافا: 'أنا مقاتل سابق في منظمة التحرير والمناضلون يعتبرون هذا البلد كعبة الثوار، وهذا التأثير النفسي كان وراء قراري'.

ويعبّر أحمد بركة عن حلمه 'الذي يشبه حلم كل فلسطيني ولد وتربى في الجزائر، أن يرجع لبلده ويخدمها بما استطاع'، أما هو فيتمنى أن يكون مسعفاً لأبناء شعبه.

هكذا هو حال الفلسطينيين المقيمين في الجزائر، قلوبهم معلقة بغزة، يتمنون لو كانوا مع أهاليهم هناك يضمدون جراح بعضهم البعض، يجمع الناجون منهم أشلاء الشهداء ويدفنونهم، يحظون بفرصة إلقاء نظرة أخيرة على من استشهد، لكن إلى ذلك الحين يبقون هنا حيث تطوى أعمارهم بعيداً عن فلسطين، ويرحل أحباءهم الواحد تلو الآخر من دون أن يتاح لهم فرصة توديعهم ولا الصلاة والسير في جنازتهم، وذلك أشدّ أوجاعهم وأقساها.