اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢ حزيران ٢٠٢٥
كتب يحيى دبوق في 'الأخبار'
يمثّل التصعيد العسكري الكبير ضدّ قطاع غزة، والذي وصفته إسرائيل بـ«فتح أبواب الجحيم»، ردَّ فعل مباشراً على رفض حركة «حماس» مقترح المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، ستيف ويتكوف، كما هو، وطَلبها تعديلات جوهرية على بنوده الرئيسة. ولذلك، يمكن وضع ما يجري الآن في إطار التفاوض بالنار؛ إذ تستخدم إسرائيل القوّة العسكرية كوسيلة ضغط مباشرة على الحركة، بدفعٍ أو على الأقلّ بقبول أميركي، بهدف إجبار «حماس» على التراجع عن مطالبها، وقبول بنود الاتّفاق من دون أيّ تعديلات. ورغم الضبابية التي تكتنف مآل الأمور، في ظلّ تصاعُد وتيرة العنف والتدمير والقتل، إلّا أنّ باب التفاوض لم يغلق تماماً، وهنا تكمن المفارقة.
وكانت حركة «حماس» أرسلت ردّها إلى الجانب الأميركي، متضمّناً تحفّظات وطلبات تعديل على بنود مقترح ويتكوف؛ وهي، وإنْ لم ترفضه بالكامل، لكنّها قرّرت استخدامه نقطةَ انطلاق لبدء مفاوضات حقيقيّة. وهكذا، اختارت، بدلاً من «القبول أو الرفض»، التعامل مع الورقة باعتبارها فرصةً لتصحيح مسار التفاوض، فجاء ردّها ليؤكّد أنّه ثمّة شروطاً أساسية يجب تحقيقها في إطار المفاوضات نفسها، ومنها: وقف لإطلاق النار يستمرّ لسنوات؛ انسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة؛ دخول المساعدات الإنسانية من دون رقابة وتحكّم إسرائيليَّين، والأهمّ إعادة فتح معبر رفح، والذي يختزل كل الشروط الفلسطينية الأخرى. وليست البنود المتقدّمة مجرّد مطالب سياسية، بل إنها تمثّل، بالنسبة إلى «حماس»، ضمانات أساسية لأيّ تسوية محتملة؛ علماً أن أيّ اتّفاق لا يتضمّن النقاط المشار إليها، لن يكون سوى هدنة مؤقّتة، تتبعها جولة تصعيد جديدة.
من جانبها، تصرّ إسرائيل على هدفها الأول، أي إعادة ترتيب الوضع في غزة أمنيّاً وسياسيّاً وسلطويّاً، بما يحقّق لها «صفر تهديدات»، مع إمكان الإعلان عن انتصار عسكري كامل على «حماس». ولهذا الغرض، تكتفي تل أبيب بالمقايضة على المساعدات الإنسانية فقط، من دون أيّ التزام بانسحاب حقيقي، أو بإنهاء الحرب. وفي الموزاة، تُظهر تصريحات مسؤوليها، من رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، إلى أصغر عضوٍ فيها، أنّ الهدف الاستراتيجي لا يشمل إنهاء الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع، بل فرض فترة هدنة قصيرة تُستخدم لسحب المحتجزين الإسرائيليين، تمهيداً لاستئناف العمليات العسكرية بوتيرة أشدّ وأكثر عنفاً لتحقيق «النصر العسكري المطلق».
قرّرت «حماس» استخدام مقترح ويتكوف نقطةَ انطلاق لبدء مفاوضات حقيقيّة
ولعلّ إحدى أهمّ دلالات ردّ «حماس»، الرغبة الواضحة لديها في تجنّب التسويف، واختيارها رفع السقف عالياً، من بداية العملية التفاوضية الحالية، لتحقيق ما أمكن في سياقاتها، الأمر الذي يشير إليه طلبها تقسيم عملية الإفراج عن المحتجزين إلى ثلاث دفعات، بما يكفل لها على الأقل أن تنتظر إسرائيل الفترة المتّفق عليها بالكامل قبل أن تتنّصل من التزاماتها، كما فعلت سابقاً. وفي الوقت ذاته، طالبت الحركة بوضع محدّدات تعيد تقويم المسار التفاوضي برمّته، وتؤدّي إلى إنهاء الحرب، في حين لوحظ أنها خفضت عدد الأسرى الذين ستفرج عنهم في المرحلة الأولى، فيما يؤشّر إلى أنّها تريد الانطلاق من شروط صعبة، لفتح المجال أمام تنازلات متبادلة لاحقاً، تتعلّق بعدد الأسرى الفلسطينيين المنوي الإفراج عنهم في المقابل، نوعاً وكمّاً.
من الزاوية الإسرائيلية، تُعدّ هذه المطالب غير واقعية، وغير قابلة للتنفيذ، وفق ما بيّنته المواقف وردود الفعل الصادرة في تل أبيب، كما في واشنطن، ما دفع إسرائيل إلى اعتبار ردّ «حماس» رفضاً للاتّفاق، ومبرّراً للتصعيد – تالياً – الذي قد يزيد من احتمال الانزلاق نحو سيناريوهات متطرّفة على الأرض. على أنه لا يمكن القول، من الناحية الأخلاقية، إن الحركة أخطأت، كونها طرفاً في صراع مستمرّ منذ عقود، ولها الحقّ في تحديد أولوياتها ومصالح شعبها، خصوصاً أن الاتّفاق رغم المأساة التي يعيشها قطاع غزة، لا يتضمّن بنوداً تكفل إنهاء الحرب، بل يكتفي بالإشارة الشكلية إلى ذلك، ما يسمح لإسرائيل بالتملّص منه لاحقاً.
ومن هنا، يعتبر رفض مقترح ويتكوف واشتراط إدخال تعديلات عليه، قراراً استراتيجيّاً من جانب «حماس»، لاسيما وأن الحركة تدرك أن القبول بشروط إسرائيلية صارمة من دون ضمانات عملية، يعني استسلامها ورضوخها للإملاءات بما لا تُحمد عقباه، مهما كان الثمن الحالي مرتفعاً.
بالنتيجة، يُتوقّع أن تشهد غزة تصعيداً إسرائيلياً واسعاً يهدف إلى فرض الإملاءات على «حماس»، ودفْعها إلى القبول بما ترفضه الآن. لكنّ العامل الأميركي يبقى هو المحكّ في كل ذلك، سواء في منح الضوء الأخضر للتصعيد، أو في الضغط على إسرائيل للعودة إلى طاولة المفاوضات، علماً أنّ موقف الإدارة الحالية وما يمكن أن تُقدِم عليه بعد التصعيد الجاري الآن، لا يمكن قياسه ويتعذّر تقديره. لذا، فالموقف الآن هو الانتظار والترقُّب لتحديد الخطوة التالية؛ وهذا الوضع، أي التفاوض تحت النار، يكاد يكون سمة الصراع القائم، منذ أشهر.