تأثيرات مناخية خطيرة تسببها آلة الحرب الإسرائيلية: لبنان يتلوث

في تقريرها الأوّل، عن التأثيرات المناخيّة والبيئيّة للحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، وما يجاوره من البلدان العربيّة والأحواض المائيّة كالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، تحدثت 'المدن' عن خطورة استمرار هذا الصراع المُسلح وغير المتكافئ، أقلّه لما يولّده من انبعاثات دفيئة عسكريّة لها ما لها من إسهامات في أزمة الاحترار والتّغيّر المناخيّ، وكذلك عن كيفية احتساب البصمة الكربونيّة (carbon footprint) للجيوش وتحديدًا لآلة القتل المنهجيّ الإسرائيليّة. وتطرقت لحيثيّة هذا الملف الجيوسياسيّ في الظاهر، الإنسانيّ في الصميم، على طاولة النقاشات الدبلوماسيّة الدوليّة. (راجع 'المدن')

ولما كان الجنوب اللّبنانيّ جزءًا لا يتجزأ من مشهديّة المشرق العربيّ المنكوب، ويختبر منذ أشهر مآلات الحرب الدمويّة على قطاع غزّة، بل ومنخرط فيها ووصلت إلى عمقه، يبدو التساؤل مُلّحًا وضروريًّا عن مصير لبنان -جنوبه تحديدًا- ومدى تأثره بيئيًّا ومناخيًّا، ذلك بعد أشهر من الاستنزاف الإنسانيّ والعسكريّ والاقتصاديّ والبيئي وعلى كافة الصُعد. وضمنًا عن التأثيرات الّتي طالته جراء المواجهات اليومية، في وقتٍ تقف فيه السّلطة الشرعيّة، موقف المتفرج العاجز، والمنفصل عن الواقع أشدّ الانفصال.

التأثيرات البيئيّة على لبنان المجاور

حاليًّا، وفي غمرة الاشتباكات العسكريّة الموصولة والمتدحرجة، قد يكون صعبًا تحديد وقياس وطأة الكارثة البيئيّة والمناخيّة الّتي طالت الأراضي اللّبنانيّة بشكلٍ غير مباشر ومباشر، ويُعزى ذلك إلى حقيقة احتدام المعارك وعدم إمكانيّة إجراء مسح شامل للمناطق المتضرّرة، ومراكمة النتائج عليه، وأيضًا لغياب شبه كليّ لدور الدولة اللّبنانيّة في كل ما يحصل، وتعطّل أدوارها. فإلى جانب التقرير الذي أعدّته برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP منذ نحو الثلاث أشهر (راجع 'المدن')، باحثًا في النتائج الأوليّة للأثر الاجتماعيّ والاقتصاديّ والبيئيّ والزراعيّ على لبنان المجاور والمنخرط بالحرب، قلّة قليلة من التقارير الموثوقة -الرسميّة وغير الرسميّة- يُمكن الاعتماد عليها لاستبيان صعوبة الواقع الحاليّ، وإحصاء الأضرار على كافة الصعد وتحديد حجمها.

وقد لحظ التّقييم الأوليّ، آنف الذكر، التأثيرات البيئيّة، مسلّطًا الضوء على العواقب الوخيمة لاستمرار النزاع الذي دفعت فاتورته المساحات الطبيعيّة، من المناطق المحميّة، مرورًا بالغابات والمراعيّ والمسطحات المائيّة، وصولًا لنوعيّة الهواء والتّربة. وقد ألحقت المواجهات وعمليات القصف أضراراً كبيرة بالأراضي الزراعية، بما في ذلك التدهور المادي، والتلوث الكيميائي، والتلوث من المخلفات المتفجرة، مما أدى إلى فقدان خصوبة التربة. وقد أدى استخدام القصف الفوسفوريّ إلى تلوث المحاصيل والمياه السطحية والجوفية، مما يشكل تهديدات للماشية وصحة الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، ضربت الحرائق مناطق زراعية مختلفة، مما أثر على بساتين الزيتون ومزارع الحمضيات ومزارع الموز وأراضي المراعي. واعتبر التّقرير أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث لتقييم التأثير الكامل.

نكبة بيئيّة

وتبين أن القصف الفسفوريّ الذي أدّى إلى حرائق في الغابات والأحراج والمناطق الزراعيّة، أثره على البيئة ليس محدودًا وآنيًّا، ذلك بسبب تأثيراته الوخيمة على الأنظمة الإيكولوجّية الطبيعيّة، والّتي تعيق عمليات الاسترداد نتيجة لتعطل العمليات البيئيّة. وبسبب خطورة الفسفور الأبيض على الكائنات الحية المختلفة، تنبأت التقارير أن ذلك قد يسبب حوادث وفاة موثقة بين الثدييات والطيور والأسماك، مما يؤدي إلى آثار بيئية طويلة الأمد تتجاوز تأثيره الفوري، وتشكل مخاطر مستمرة نتيجة لصعوبة السيطرة عليه واحتراقه المطول. وهذا وحده ما يشكل تهديدًا كبيراً على صحّة الإنسان وسلامة البيئة في الجنوب مباشرةً وسائر الأراضي اللّبنانيّة بصورةٍ غير مباشرة.

وعلاوةً على ذلك، تأثرت بنية الشبكات المائية بشكل كبير، الأمر الذي يُنذر بخطر انتشار الأمراض الّتي تنتقل عن طريق المياه، مؤديّة إلى تعميق التدهور المنهجيّ للنظم البيئيّة. فيما تراجع نوعية التربة في المناطق المتضررة بسبب التدمير المادّي والتلوث الناتج عن انتشار المعادن الثقيلة والمُرّكبات الساّمة من الأسلحة المتفجرة، بالإضافة إلى تأثير استعمال الفسفور الأبيض المفرط الذي يؤدي إلى تقليل خصوبة التربة وزيادة حموضتها. ومن المتوقع أن يؤثر الصراع أيضًا على إدارة النفايات الصلبة، مما ينتج عنه تأثير سلبيّ على الأنظمة البيئية نتيجة لتعطيل إدارة النفايات واستخدام طرق غير آمنة لدفنها وحرقها.

وتأتي هذه النكبة البيئيّة في وقتٍ يبرز فيها تحدّي التغيّر المناخيّ أزمة أخرى على لائحة أزمات لبنان المتناسلة (راجع 'المدن')، هو الذي احتل المرتبة الأدنى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فيما يتعلق بالاستعداد والتكيف مع تحديات التغير المناخيّ، حيث جاء في المرتبة 161 من بين 192 دولة في عام 2022 وفقًا لتقرير البنك الدولي المعني بلبنان وتأثيرات التغير المناخيّ على التنمية. يعزى هذا التصنيف السلبي مباشرة إلى ضعف البنية التحتية وانهيار المؤسسات في البلاد، وهي في أربع قطاعات: الطاقة، المياه، النقل والنفايات الصلبة. هذه القطاعات الأربعة استنزفت في الاشتباكات الأخيرة وتعرضت لتهديدات واعتداءات مباشرة. وكل ذلك جاء في وقتٍ كان قد تعهد لبنان فيه بتحقيق أهداف مناخيّة اُعتبرت وكأنها انفصال عن الواقع، وخصوصًا بغياب آليات وسياسات جديّة وعمليّة وأموال تكفي لتمويل هذه الأهداف.

آثار الحرب على النظم البيئيّة والإنسانيّة

من جهته يصف الكاتب والباحث في شؤون التغير المناخيّ، خالد سليمان، في حديثه إلى 'المدن'، أن الآثار لأي حرب على النظم البيئيّة والإنسانيّة هائلة وخطيرة، وقد تكون مباشرة وغير مباشرة، وخصوصًا التخريب المنهجيّ للبنى التحتيّة. وما شهدناه في حرب غزّة هو تجلٍّ حقيقي لكل هذه الآثار، الأمر الذي ينطبق على جنوب لبنان، الذي بات في مواقعٍ عدّة منه غير صالح للعيش، ولا التواجد البشريّ أو الاستغلال الزراعيّ، وهذا بالطبع أثرٌ مباشر. وشهدنا أيضًا واقعة غرق السفينة في البحر الأحمر المحملة بآلاف الأطنان من المواد الملوثة. ناهيك عن الضرر في الأحواض المائيّة الأخرى كالبحر الأبيض المتوسط، قائلًا: 'برأي، الحرب على غزّة جعلتنا ننسى الشقّ الكارثيّ لتداعيات الحرب على المناخ، على الرغم من ماهيتها ومحوريتها كضررٍ مباشر، في منطقة هشة وحساسة كالشرق الأوسط وشماليّ أفريقيا'، مستطردًا: 'يجب ألا نتناسى هذه القضيّة، بوصفها واحدةٌ من ملفات الضغط لإيجاد حلّ للصراع، وملف يرتبط باستمراريّة السكّان في المنطقة، واستمراريّة الإنسان في العالم'.

يُذكر أن 'المدن' حاولت التواصل مع وزارة البيئة لمعرفة المزيد من التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع تحديدًا، من دون الحصول على أي إجابة، إما تمنّعاً أو عجزاً.

ارتفاع معدلات التلوث في لبنان

وفي سياقٍ متصل، كانت النائبة نجاة عون صليبا، كشفت في مقابلة مع إحدى وسائل الإعلام اللّبنانيّة، أفادت عن زيادة ملحوظة في معدلات التلوث الهوائي، والذي يرتبط ارتفاعه بزيادة حالات الأمراض القلبية والرئوية، بالإضافة إلى الإصابة بمرض السرطان نتيجة التنفس المزمن للهواء الملوث. كما أشارت إلى أن نتائج الدراسة تظهر زيادة في حالات الأمراض القلبية والسرطانية في لبنان قبل عشرين عامًا من المعدل العالمي.

وأشارت النائبة إلى أن الدراسة التي تركزت على بيروت، أظهرت تضاعفاً ملحوظاً في الكميات السرطانية، نتيجة التشغيل المكثف للمولدات الكهربائية والتلوث الناتج عنها. وأكدت ضرورة تغيير النهج الحالي وتبني استراتيجيات واضحة للتحول من استخدام المولدات إلى بدائل أخرى، مع التأكيد على أن الوزارات المعنية يجب أن تتخذ إجراءات عاجلة في هذا الصدد.

وأوضحت أن هناك تعميمين في وزارة البيئة يفرضان وضع فلاتر على المولدات الصغيرة والكبيرة للتقليل من انبعاث الجزيئات الملوثة، مع الاهتمام بتطوير فلاتر أكثر فعالية. وأشارت إلى أهمية الأشجار في تنقية الهواء وامتصاص الجزيئات الضارة، وأشارت إلى الاتجاه العالمي نحو زيادة المساحات الخضراء.