اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
د. طرائف موسى
في كلّ صفٍّ من صفوف الوجود، هناك من يتقدّم نحو المقعد الأوّل كما لو أنّ الخلاص يسكن فيه.
يخطو بخطواتٍ حذرة، يجرّ وراءه ظلّ الخوف من أن يتأخّر، يجلس منتصبًا كجنديّ في طابور الطاعة، يحدّق في المعلّم، لا حبًّا في الدرس، بل خوفًا من الغياب.
المقعد الأوّل، في ظاهره، مرتبة شرفٍ، لكن في جوهره قفصٌ ذهبيّ، يُخفي رعشة الكائن وهو يهرب من العدم.
هنا تتفجّر الإشكالية الفلسفية:
هل الجلوس في المقعد الأوّل هو فعلُ إرادةٍ حرّة، أم استسلامٌ خفيّ أمام سلطة الظهور؟
من يركض إلى الأمام، لا يبحث دائمًا عن الضوء، بل أحيانًا يهرب من العتمة التي في داخله. يريد أن يُرى كي يطمئنّ إلى أنّه موجود، وأن يُصفّق له الآخرون كي يصدّق أنّه ليس بلا أثر.
غير أنّ هذه الرغبة في التقدّم لا تولد من شجاعة، بل من خوفٍ أن نُترك خلف الركب، من رعبٍ أن نصبح وجوهًا بلا أسماء.
كما قال نيتشه: «من ينظر إلى الهاوية، تنظر الهاوية إليه أيضًا» — وهكذا، ينظر صاحب المقعد الأوّل إلى القاع، لا ليفهمه، بل ليهرب منه.
إنّ هيستيريا المقعد الأوّل ليست في الكرسيّ ذاته، بل في نظرة الآخر التي تسكننا.
كما لو أنّنا لا نعيش لأنفسنا، بل في مرآة التقييم الدائمة التي نصبها المجتمع في كلّ زاوية.
نريد أن نكون الأوائل، لا لأنّنا نعرف إلى أين نذهب، بل لأنّنا نخاف أن نُنسى إن لم نكن هناك.
وهنا يتجلّى ما قصده سارتر حين قال إنّ «الآخر هو الجحيم»؛ لأنّنا حين نعيش تحت نظرته، نفقد القدرة على رؤية ذواتنا بعيوننا نحن.
لكنّ سقراط يهمس في الجهة المقابلة:
'الحكمة لا تنبت في الميادين المضيئة، بل في المساحات التي يتعلّم فيها الإنسان أن يشكّ في نفسه.”
فحين يجرؤ المرء على الشكّ، يتحرّر من وهْم الصدارة، ويدرك أنّ النور لا يُقاس بقربه من السبّورة، بل بقدرته على إنارة الداخل.
الشفاء من هذه الهيستيريا لا يكون بالتراجع إلى المقعد الأخير، ولا بالانسحاب من السعي، بل بالجلوس في المقعد الذي تختاره أنت بملء إرادتك.
أن تجلس لا حيث يريدك العالم، بل حيث تبدأ أنت في رؤية العالم من جديد.
أن تتعلّم أن تكون حاضرًا، لا مرئيًا؛ أن تفهم لا لتُصفّق، بل لتتغيّر.
فالمقعد الأوّل ليس أمامك في الصفّ، بل في أعماقك.
حين تجلس فيه، تبدأ الفلسفة.
حين تختار مكانك بحرّية، لا تكرارًا، تولد الذات التي لا تحتاج إلى ترتيبٍ كي تكون الأولى.
ومع ذلك، تبقى الإشكالية مفتوحة:
هل يمكن أن نطلب التميّز دون أن نصير عبيدًا له؟
أم أنّ كلّ مقعدٍ نتقدّم نحوه يحمل في طيّاته بذرة خوفٍ من المقعد الذي خلفه؟
ربّما الجواب، كما يقول الصمت، لا في الأوّل ولا في الأخير،
بل في ذاك المقعد الذي يجلس فيه الإنسان حرًّا،
ينصت إلى صوته الداخليّ،
ويفهم أخيرًا أنّ العظمة ليست في أن تكون في المقدّمة،
بل في أن تكون في مكانك الحقيقيّ من الوجود.











































































