بعد الانتخابات البلدية والطلابية والنقابية… "القوات" قادمون

كتب نجم الهاشم في 'نداء الوطن':

ما حصل في انتخابات نقابة المحامين في بيروت الأحد 16 تشرين الثاني الحالي أعاد إلى الأذهان ما حصل في الانتخابات البلدية والاختيارية في مدينة زحلة في 18 أيار الماضي عندما فازت اللائحة المدعومة من 'القوات اللبنانية' بكامل أعضائها، بمعدل 14 ألف صوت بفارق ستة آلاف صوت عن المعدل الوسطي لما نالته اللائحة المنافسة. مسار صعود 'القوات' انتخابيًا يعكس صعودها السياسي وقد تُرجم أيضًا في الانتخابات الطلابية في معظم الجامعات، وهو مؤشر إلى ما يمكن أن تكون عليه الانتخابات النيابية في أيار المقبل.

كانت معركة الانتخابات البلدية في زحلة قبل خمسة أشهر أم المعارك البلدية تقريبًا. كان عنوان هذه المواجهة كسر 'القوات اللبنانية' ووقف اندفاعتها السياسية والشعبية التي بدأت تتصاعد بشكل كبير منذ ثورة 17 تشرين وبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وبعد انخراط 'حزب الله' في حرب مساندة حركة 'حماس' في غزة، وتركيز 'القوات' على مسألة استعادة سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، كما استعادة قرار الحرب والسلم، وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني و نزع سلاح 'حزب الله' وتطبيق مندرجات اتفاق وقف النار الذي وافق عليه 'حزب الله' في 27 تشرين الثاني الماضي وفيه نصّ واضح على حصرية السلاح. وزادت شعبية 'القوات' أكثر بعد الضربات التي تلقاها 'الحزب' وأتت بعد تحذيرها المستمر من مغبة تحمّل نتائج هذه المغامرة التي كانت أخطر من انخراط 'الحزب' في الحرب السورية، وأكّدت، خصوصًا بعد انهيار النظام السوري السابق، صوابية توجهاتها السياسية التي لم تعدّل فيها منذ ما بعد اتفاق الطائف عام 1989 على رغم كل الملاحقات والاعتقالات التي تعرّضت لها وحلّها واعتقال رئيسها سمير جعجع ووضعه في السجن طوال 11 عامًا.

زاد في استقطاب 'القوات' شرائح شعبية جديدة تحولها إلى قوة قاطرة سياسية خصوصًا في القرارات المصيرية السيادية التي عكست التحوّل الكبير في المنطقة من خلال التأثير في انتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية ثم تسمية الرئيس نواف سلام لتأليف الحكومة التي تشكلت من دون أي فيتو لـ 'حزب الله' وشريكه الرئيس نبيه بري في 'الثنائي الشيعي'.

خرق 'القوات' للحصار

في انتخابات بلدية زحلة تكتلت كل القوى السياسية ضد 'القوات'. 'الكتائب' و'الأحرار' و'التيار الوطني الحر' و'المستقبل' و'حزب الله' وحركة 'أمل'. حاولت 'القوات' أن تتحالف مع رئيسة الكتلة الشعبية ميريام سكاف في محاولة لكسر هذا الحصار ولكن المحاولة فشلت واستغنت 'القوات' عن هذا التحالف. كانت معظم التوقعات تشير إلى احتمال خسارة 'القوات' ولكن النتائج جاءت عكسية لتظهر فوزها الكبير على جميع الذي تجمعوا ضدها وبفارق كبير جدًا أعطاها ثقة أكبر برصيدها الشعبي المتصاعد في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها لبنان والمنطقة.

لم يكن هذا الفوز الكبير ناتجًا عن قوة 'القوات' الانتخابية فقط، بل كان دليلًا على تحول مستمر في المزاج الشعبي الذي اعتبر أنها في طروحاتها السياسية التي لم تتنازل عنها يمكن أن تشكل الرافعة التي يمكن الاستناد إليها من أجل تحرير القرار اللبناني واستعادة السيادة وسلطة الدولة. قد يكون هذا المزاج الشعبي مرتكزًا في شكل أساسي أيضًا على الضربات التي تلقاها 'حزب الله'، ولكنه استند في شكل بارز على الأضرار الكبيرة التي ألحقتها استراتيجية 'الحزب' باللبنانيين جميعًا بحيث صاروا توّاقين إلى الخلاص بأي شكل كان. هذا المزاج لم يظهر في زحلة وحدها بل في مناطق أخرى وذلك من خلال استقطاب 'القوات' عددًا من المرشحين الذين كانوا يُعتبرون سابقًا من بين التقليديين الذين لا يستسيغون عمل الأحزاب، وإذا بهم يقتربون من 'القوات اللبنانية' في حركة سياسية ظاهرة ويؤكدون التحالف معها في الانتخابات النيابية المقبلة.

حزب الجمهورية الجديدة

صحيح أن رئيس 'القوات' خرج من السباق إلى رئاسة الجمهورية لأنه كان يعرف أن مثل هذا الأمر ليس وقته ودونه صعوبات، ولكن في الواقع باتت 'القوات'، باعتراف المؤثرين في اللعبة السياسية وكأنها حزب الجمهورية الجديدة التي يجب أن تولد. ولذلك تمّ التعاطي معها باعتبارها مكوّنًا أساسيًا في التركيبة الحكومية وفي آلية اتخاذ القرارات النهائية مقابل استبعاد التأثير الذي كان لـ 'حزب الله' على السلطة ومصادرة قرارها. في اختصار صار حضور 'القوات' في دائرة القرار، موازيًا لتحرير هذا القرار من سيطرة 'حزب الله'. ولذلك بات هذا 'الحزب' يعتبر أن 'القوات' هي التي تقود المواجهة معه، وبات يركّز هجوماته عليها من المستوى السياسي ونزولًا إلى المستويات الشخصية والإهانات التي طالت الكثيرين.

أظهرت الانتخابات الطلابية التي حصلت في الجامعات الخاصة في اللويزة واللبنانية الأميركية والأميركية واليسوعية وغيرها… اتساع دائرة التأييد التي باتت تحظى به 'القوات' وكان فوز المرشحين المحسوبين عليها دليلًا جديدًا إلى أن المزاج الشعبي آخذ في التجمع حول خياراتها، ذلك أن هذه النتائج ليست متوقفة فقط على المحازبين القواتيين. وهذا ما أربك الأطراف التي تعتبر أن 'القوات' قد تتحوّل إلى قوّة استقطاب شعبية مسيحية ولبنانية بحيث يمكن أن تصل إلى الانتخابات النيابية وتكون قد تجمّعت حولها قوى كثيرة سياسية يمكنها معها من خلال هذه الموجة الشعبية أن تُحدِث انقلابًا في الموازين داخل مجلس النواب. ومن خلال هذه التوقعات تنظر هذه القوى التي تعتبر نفسها متضررة من صعود القوات إلى المواجهة الحاصلة بين 'القوات' ورئيس مجلس النواب نبيه بري حول مصادرته قرار المجلس باعتبار أن هذه المواجهة تعني تحرير هذا القرار أيضًا من دون المسّ بصلاحيات رئيس المجلس التي حدّدها له الدستور والنظام الداخلي للمجلس.

حائط صدّ في نقابة المحامين

ضمن هذا المسار السياسي الانتخابي كانت تحالفات المواجهة في نقابة المحامين. فوز اللائحة المدعومة من 'القوات' مع النقيب عماد مرتينوس أتى بموازاة الفوز الذي تحقق في بلدية زحلة. تحالف المتحالفين المتناقضين في هذه الانتخابات كان بهدف إقامة حائط صدّ في وجه تقدم 'القوات' الانتخابي ولكن النتائج أيضًا أتت عكسية. بعض المتضررين من هذا الفوز حاول أن يقول إن 'القوات' تبنت هذا الفوز وإن مرتينوس هو الفائز وليس 'القوات'. ولكن لم يكن بالإمكان تزوير النتائج. حتى أن المقاتلين ضد 'القوات' في البيئة المحيطة بـ 'حزب الله' أكدوا أن 'القوات' أطاحت بالأحزاب التي تحالفت ضدّها. وبالتالي فإن هذه المعركة زادت من الزخم التي تتمتع به 'القوات' وزادت من فرصها في إنجاز تحالفات سياسية واسعة في الانتخابات النيابية المقبلة.

هذا التحوّل السياسي يُترجم من خلال كسر حالة الحصار التي تعرّضت لها 'القوات' مثلًا في انتخابات أيار 2022، خصوصًا في الترشيحات السنية التي عانت من التشكيك بدور 'القوات'، ومن الترشيحات الشيعية التي تعرّضت لتهديدات من 'الثنائي الشيعي' بحيث كان كل من يريد أن يترشح مع 'القوات' يعرِّض نفسه للخطر الجسدي. هذه المرة انكسر تلقائيًا هذا الحصار بحيث بات التعاطي مع 'القوات' أسهل وأكثر إيجابية وانفتاحًا وإقبالًا. وما يمكن أن يعزز هذا الصعود سقوط رهانات 'حزب الله' في مسائل أساسية لجهة احتفاظه بسلاحه وبتنظيماته الأمنية والعسكرية وبموارده الماليه وبطرقه المفتوحة إلى طهران. ذلك أن السلطة لم تأخذ بعد المبادرة للتحرّر من سلطة 'الحزب' وهيمنته ولذلك باتت في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية والقوى المعارضة لـ 'الحزب' كفرنسا والمملكة العربية السعودية.

الإنذار الأخير

ضمن هذا الإطار جاءت عملية إلغاء زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن التي كانت مقررة في 18 تشرين الثاني بعدما ألغت السلطات الأميركية جدول لقاءاته وألغت السفارة اللبنانية في واشنطن حفل الاستقبال الذي كان معدًّا له قبل أن يعلن من لبنان عن إلغاء هذه الزيارة. هذه الإشارة الأميركية ليست موجهة ضد قائد الجيش حصرًا بل ضد السلطة السياسية أيضًا للقول لها مباشرة إنها لا تقوم بما عليها، ولتعيد التذكير بما كان قاله السفير توم براك: نسمع أقوالها ولا نرى أفعالها. وهذا الإلغاء يأتي أيضًا في ظلّ هجمة أميركية على السلطة والجيش تصل إلى حد التهديد بوقف المساعدات خصوصًا بعدما كانت واشنطن خصّصت نحو 230 مليون دولار كمساعدة للجيش مقابل نزع سلاح 'حزب الله'.

لا تطمح 'القوات' في ظل هذا الوضع لمضاعفة عدد نوابها الحاليين. هذا الأمر غير ممكن سياسيًا وحزبيًا وشعبيًا. ولكن التوقعات تشير إلى أن فرصها في التقدم أكثر متعلقة أيضا بالتصدي الرسمي لنفوذ 'حزب الله'. حيث أن التوجهات الدولية الجديدة، وفي ضوء التطورات الحاصلة في المنطقة من سوريا إلى إسرائيل وقطاع غزة، تشير إلى أن 'حزب الله' لا يمكن أن يبقى محتفظًا بسلاحه. ولذلك ربّما تتخلّى واشنطن عن ردع إسرائيل عن تنفيذ تهديداتها بالقيام بتدمير قدرات 'حزب الله' المتبقية له. وهذا ما يمكن أن يفتح المجال أكثر أمام تحرير المتردّدين من الخوف من 'الحزب'. ومن هنا يمكن أن تزيد الكتلة النيابية التي تدور في الحلقة نفسها مع 'القوات'، ويمكن أن تزيد كتلة 'القوات' عددًا قليلًا من النواب. وهذا الأمر يكفي وحده لتثبيت التحوّلات الحاصلة على صعيد النفوذ في المجلس النيابي، وعلى صعيد تشكيل أي حكومة بعد هذه الانتخابات وتسمية الرئيس الذي سيشكّلها.

يحصل كل ذلك بينما يبدأ السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى مهماته في لبنان منطلقًا من اعتباره أن تفكيك سلاح 'حزب الله' ضرورة وليس خيارًا… ما يحصل اليوم في لبنان مع تحديد المهل يشبه الإنذار الذي وجهه الرئيس ترامب لحركة 'حماس' حتى تقبل بوقف النار وبحلّ نفسها ونزع سلاحها.