إعادة الإعمار المعلّقة: أين يقف السلام الاقتصادي من معادلة الحرب والديون؟

د. هنا عرابي

يشكّل ملف إعادة الإعمار في لبنان أحد أكثر الملفات أهمية بعد كل حرب. فالتجربة التاريخية منذ نهاية الحرب الأهلية حتى حرب تموز 2006 وصولاً إلى حرب 2024، تثبت أن الإعمار في لبنان لا ينفصل عن الدين العام، ولا عن التوازنات السياسية الداخلية والخارجية. الدمار الذي خلّفته الحرب الأخيرة، بتقديرات أولية تتجاوز 15 مليار دولار وفق تقرير الإسكوا (2024)، جعل الحاجة إلى إعادة الإعمار أولوية وطنية، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام طرح «السلام الاقتصادي» كمدخل للتمويل والتنمية. وهنا يبرز السؤال: هل يمكن أن يشكّل هذا المسار فرصة حقيقية، أم أنه مجرد إعادة إنتاج لدوامة الديون والتبعية؟

أولاً: الإرث التاريخي لإعادة الإعمار في لبنان

بعد الحرب الأهلية (1990–2005):

انطلقت ورشة إعادة الإعمار بقيادة مشروع «سوليدير» الذي أعاد الحياة إلى وسط بيروت وجعله رمزاً للمرحلة الجديدة، مع الاعتماد على تمويل عبر الدين العام لتسريع عملية النهوض. لكنه تعرّض لانتقادات حول اعتماده على الخصخصة وتهميش الفئات الشعبية وزيادة الدين العام وارتباط المشاريع بالتوازنات السياسية والطائفية، ما جعل الإنماء غير متوازن بين المناطق.

بعد عدواني 1996 و2006:

تمحور الإعمار حول المساعدات الخليجية والأوروبية، واعتمد نموذجاً سريعاً لإعادة البنى التحتية والجسور، لكنه افتقر لرؤية تنموية بعيدة المدى. كما أدّى غياب العدالة في توزيع المساعدات إلى شعور بعض المناطق بالتهميش وإلى تعميق الانقسام بين الدولة والمقاومة.

الإرث المؤسساتي:

ضعف دور الدولة في التخطيط الاستراتيجي جعلها أقرب إلى وسيط لإدارة أموال المانحين. كما أن تعدد المانحين وغياب التنسيق بينهم أدى إلى ازدواجية المشاريع وهدر الموارد، فيما تحوّل الإعمار إلى أداة للصراع السياسي الداخلي والإقليمي.

الإرث الراهن (ما بعد حرب 2024):

تتكرر الأسئلة حول عدالة توزيع المساعدات، وكيفية منع الفساد والمحاصصة، إضافة إلى شروط التمويل المرتبطة بالترتيبات السياسية والأمنية الإقليمية. ويبقى التحدّي الأساس هو تحويل الإعمار من مجرد صفقة سياسية إلى مسار تنموي مستدام.

ثانياً: حرب 2024 – أبعاد الدمار والأزمة

الحرب الأخيرة عمّقت أزمات لبنان:

البنية التحتية: دُمّرت طرقات وجسور وشبكات كهرباء ومياه.

النزوح الداخلي: أكثر من 400 ألف شخص اضطروا لمغادرة مناطقهم (تقرير الأمم المتحدة 2025).

الاقتصاد المنتج: تكبّد القطاع الزراعي والصناعي خسائر تجاوزت 3.2 مليار دولار.

النمو الاقتصادي: انكماش إضافي بنسبة 9% في الناتج المحلي مقارنة بالعام السابق (البنك الدولي 2025).

هذه الأرقام تكشف أن الإعمار ليس رفاهية، بل شرط وجودي لاستعادة الدورة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

ثالثاً: السلام الاقتصادي كمدخل مقترح للإعمار

عاد المجتمع الدولي ليطرح «السلام الاقتصادي» كصيغة لإدارة ما بعد الحرب:

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يشترطان الإصلاحات الاقتصادية والأمنية مقابل المساعدات.

الدول الخليجية تلوّح بدعم مشروط باستقرار سياسي ومناخ استثماري آمن.

المنظمات الدولية تشترط مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.

بهذا، يصبح الإعمار رهينة لشروط سياسية واقتصادية، حيث يُقدَّم الأمن كمدخل للتنمية، بينما يُطرح التمويل كأداة لفرض إصلاحات قد لا تكون متوازنة مع الواقع اللبناني.

رابعاً: معضلة الديون – إعادة إنتاج الحلقة المفرغة

لا يمكن الحديث عن إعمار جديد من دون التوقف عند أزمة الدين العام. فخدمة الدين تستهلك أكثر من 40% من الموازنة، والتعثّر عن سداد سندات اليوروبوند منذ 2020 جعل لبنان في عزلة مالية. إذا تم تمويل الإعمار عبر قروض جديدة، فهذا يعني إدخال البلد في حلقة مفرغة: دمار - إعمار - ديون - أزمة - حرب. وبالتالي فإن السؤال المطروح: هل يريد المانحون دعم لبنان عبر منح ومشاريع غير ربحية، أم دفعه مجدداً إلى فخ الاستدانة والمس بالسيادة المالية؟

خامساً: المخاطر الكامنة في إعادة الإعمار المعلّق

إن أي مشروعا لإعادة الإعمار اليوم في لبنان لا يمكن فصله عن أبعاد التطبيع والتبعية، حيث يرافق التمويل الدولي عادةً شروط سياسية أو أمنية تجعل الدولة اللبنانية مرتهنة. أبرز المخاطر تتمثل في:

• التطبيع المكرّس: التمويل مرتبط غالباً بتبنّي سياسات خارجية محددة أو تقارب مع جهات إقليمية، ما قد يُعطي صفة رسمية لتسويات سياسية غير مقبولة داخلياً.

• ضعف السيادة الوطنية: كل تمويل خارجي جديد يضعف القرار اللبناني، إذ يفرض رقابة على كيفية توزيع الموارد واستخدامها، ويقيّد قدرة الدولة على وضع أولوياتها التنموية.

• تعميق التبعية الاقتصادية: الربط بين التمويل والمشاريع الكبرى يحوّل إعادة الإعمار إلى آلية لصالح الجهات المانحة، ما يعيد إنتاج نموذج «الإعمار المرهون» الذي يكرّس النفوذ الخارجي.

• إهمال الاقتصاد المنتج: التركيز على مشاريع شكلية أو بنى تحتية تحت إشراف خارجي يهمّش القطاعات المنتجة مثل الزراعة والصناعة المحلية، ما يزيد هشاشة الاقتصاد الوطني.

كل تمويل يُقدّم اليوم ليس مجرد دعم اقتصادي، بل أداة لإعادة تشكيل المعادلة السياسية والاقتصادية والأمنية لصالح الخارج، بينما تبقى الدولة اللبنانية في موقع مراقب «غير فاعل».أخيرا» يبقى السلام الاقتصادي، بصيغته الحالية، طرحاً هشّاً يربط التنمية بشروط أمنية وسياسية خارجية. أما إعادة الإعمار الحقيقية فهي التي تُبنى على إصلاح داخلي شفاف، يعيد الاعتبار للاقتصاد المنتج ويستثمر في الإنسان قبل الحجر. فالمعادلة أمام لبنان ليست «إعمار أو دمار»، بل «إعمار يرسم استقلالاً اقتصادياً» أو «إعمار يكرّس التبعية» إعماراً يبني لبناناً بدلاً من «لبنانات متعددة». وحتى اليوم، يبدو أن إعادة الإعمار ستظل معلّقة بين الوعود الدولية والقيود المالية والخروقات الأمنية، ما لم يمتلك لبنان إرادة وطنية لإدارة هذا الملف لم يشهدها منذ قيامه.