مغاور لبنان... كنوز حمايتها واجبة

7 منها فقط سياحية مع شروط ومعايير صارمة حفاظاً عليها من الأضرار

تبدو عشرات المغاور الموجودة في لبنان وكأنها عالم آخر في حد ذاته، هي ثروة كان من الممكن اكتشافها مع مرور السنوات في وقت يتوقع أن يكون هناك كثير غيرها مما لم يتم اكتشافه بعد. ونظراً إلى طبيعة لبنان غلبت أنواع معينة من المغاور التي بدأ يتشكل بعضها من ملايين السنوات. ومن هذه المغاور ما استُثمر سياحياً في خطوة مثيرة للجدل بدت جذابة للبعض، لكن غير محبذة للخبراء المتخصصين في مجال المغاور والمدافعين عنها لما قد تسببه من أضرار لا يمكن تصحيحها فيها، كونها كنوزاً لا تعوض. وخير دليل على ذلك، المشهد المروع الذي شهدناه في مغارة جعيتا (جبل لبنان) التي تصنف وطنياً كمعلم سياحي وطبيعي فريد يستوجب أعلى درجات الحماية والعناية، وهي تعد أبرز الوجهات السياحية البيئية في المنطقة. فقد أثار حفل الزفاف الذي أقيم وسط أضواء ملونة وموسيقى صاخبة في موقع يخضع لحماية بيئية صارمة، جدلاً وموجة استنكار على وسائل التواصل الاجتماعي، في وقت تبقى مغاور لبنان إرثاً حقيقياً للأجيال المقبلة وتتجدد الدعوات للحفاظ عليها بشتى الطرق مع احترام المعايير الدولية الخاصة بحماية المغاور.

يتميز لبنان بطبيعته الجيولوجية التي تتكون من صخور كلسية صلبة وجبال، وقد تشكلت المغاور فيه عبر تاريخ جيولوجي طويل يعود إلى ملايين السنوات فظهرت بصور مختلفة، لكن غلبت عليها تلك التي لديها طبيعة كلسية. وبحسب رئيس النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور جوني طوق فإن نسبة 90 في المئة من الطبيعة الجيولوجية والأرض في لبنان هي كارستية أو كلسية، 'لذلك المغاور في البلاد هي من تلك الكلسية، لكن بصورة عامة، هناك أنواع عدة من المغاور التي تختلف بطبيعتها، فمن الممكن أن تتشكل في طبقات كلسية، وأيضاً هناك المغاور البركانية، وتلك التي في الجليد، والتي في الملح'.

أضاف طوق 'في لبنان، يقارب عدد المغاور 600 تتوزع على مناطق عديدة من البلاد، لكن يتركز معظمها في جبل لبنان وفي شمال لبنان في السلسلة الغربية وصولاً إلى الحدود اللبنانية - السورية. ومن المتوقع أن تكون هناك في المنطقة السورية المحاذية مغاور غير مستكشفة بعد، ومنها المغاور البركانية. أما في جنوب لبنان فيتراجع عدد المغاور إلى حد كبير، وكذلك في البقاع. في السلسلة الشرقية، قد تكون هناك مغاور غير مكتشفة بعد، لكن يبدو اكتشافها صعباً لأسباب أمنية بالدرجة الأولى'.

ولفت طوق إلى أنه حتى في حال اكتشاف مغاور في الجنوب، 'فمن المتوقع أن يكون عددها قليلاً بالمقارنة مع جبل لبنان والشمال. عام 2011، تمكننا من اكتشاف 17 مغارة، وكان من الممكن اكتشاف أكبر مغارة بركانية في جنوب سوريا. أما في لبنان، فتعد المغاور كافة مشابهة لتلك التي في العالم، وهي كلسية، من حيث طبيعتها وتكوينها والطريقة التي تشكلت فيها، لكنها قد تختلف من حيث الشكل'.

إضافة إلى طبيعة المغاور التي يمكن أن تختلف، ثمة أنواع عديدة من المغاور من حيث الشكل فمنها الهوات التي تعد عبارة عن مغاور عمودية يمكن النزول إليها بالحبال. أما المغاور الأفقية فمنها مغارة جعيتا مثلاً التي تعد أطول مغارة في لبنان ويصل طولها إلى 9 كيلومترات، وتحوي أكبر هابط في العالم طوله 8 أمتار و20 سنيتمتراً. وتأتي من بعدها في المرتبة الثانية مغارة الرويس في العاقورة (جبل لبنان) بطول 5460 متراً. أما مغارة أفقا (جبل لبنان) فطولها 5200 متر وتضم شلالات كبيرة، وأيضاً هناك مغارة كهف إنطلياس (جبل لبنان) التي هي عبارة عن كهف كبير، ومغارة كفرحيم (جبل لبنان) التي قدر عمرها بما يزيد على 4 ملايين سنة، وهي مكونة من طبقات عدة، ومن أشكال وأحجام متنوعة وفيها مياه تتدفق بصورة شلالات، ومغارة البحيرة (شمال) التي تمتد على مساحة 1215 متراً ويتخطى ارتفاعها في أماكن معينة 30 متراً، ومغارة الزحلان (شمال) التي تضم أيضاً شلالات كبيرة، ومغارة قاديشا (شمال)، ومن تلك العمودية هناك مغارة الحدث (شمال)، وهوة قطين عازار (جبل لبنان)، وهوة فوار الدارة (جبل لبنان).

بدأت قصة المغاور في لبنان مع تأسيس النادي اللبناني للتنقيب على المغاور. فمنذ ذاك التاريخ، بدأ التنقيب عن المغاور واستكشافها في لبنان تباعاً. وكانت البداية مع مغارة جعيتا. فكان من الممكن الدخول إلى قسم منها فقط مع مستكشفين أجانب في السابق بعدما اكتشفها المستكشف الأميركي إدوارد تومسون عام 1863، وإن جميع من دخلوها من أجانب لم يتخطوا 1500 متر منها، ومنها 1000 متر من السهل الوصول إليها. لذلك، أشار طوق 'إلى أنه كان من الممكن البدء بالتوغل في مغارة جعيتا مع اللبنانيين بعد الحرب العالمية الثانية، ومن عام 1946 استمر التقدم فيها حتى عام 1953، وكان من الممكن الوصول إلى 6400 متر من المدخل، وفي عام 1953 شارك النادي في مؤتمر عالمي في باريس واتخذ قرار بتأسيس الاتحاد العالمي لعلم المغاور، وفي عام 1956 تم تحويل مغارة جعيتا بصورة جزئية إلى مغارة سياحية، وفي عهد الرئيس كميل شمعون (رئيس راحل للجمهورية) تم افتتاح المغارة السفلى. عام 1958، تمكن النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور من اكتشاف الطبقة العليا من المغارة، لكن حتى اليوم لم يتضح بعد ما إذا كان هناك مزيد من المغارة يمكن اكتشافه'.

وتابع رئيس النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور 'في عام 1963 اتخذ قرار بتحويل الطبقة العليا من المغارة إلى موقع سياحي مع المهندس غسان كلينك. واتخذ الرئيس فؤاد شهاب (رئيس راحل للجمهورية) قرار بدء المشروع وتوسعة الطريق المؤدي إلى المغارة، وإقامة كل ما يلزم لتحويل المغارة إلى معلم سياحي بما في ذلك التلفريك ومطعم لاستقبال الزوار، مع مشروع توسيع مدخل المغارة السفلى أيضاً. عام 1969، في عهد الرئيس شارل حلو (رئيس راحل للجمهورية) أقيم الافتتاح الرسمي للمغارة مع حفل موسيقي خاص يقام للمرة الأولى في العالم. وحقق نجاحاً عالمياً كحفل عام أقيم مع موسيقى كلاسيكية ملائمة للمغارة، تحترم البيئة الفريدة فيها لتجنب أي ضرر، فأي ضرر يمكن أن يحصل في المغارة لا يمكن تصحيحه، ولا يمكن العودة إلى الوراء عندها'.

لفت طوق إلى أن للحفلات في المغاور أصولاً ومعايير لا يمكن التغاضي عنها لحماية هذه المغاور وحرصاً على سلامتها، 'فلا بد من مراعاة بيئة المغارة في الحفلات التي تقام من حيث عدد الأشخاص، والموسيقى، والإنارة، لأنها كلها عوامل تؤثر في المغارة ويمكن أن تلحق أضراراً بها. وبصورة خاصة، من العوامل التي تسيء إليها أو إلى أي مغارة وتهدد الأشكال الهندسية فيها، الإنارة غير الملائمة التي تؤدي إلى تغيير الحرارة، وظهور الطحالب على الأسطح الصخرية. ويعتمد نظام خاص للحفاظ على المغارة، مع شروط لغسل الصخور فيها، ومعايير صارمة تمنع لمسها. ولمغارة جعيتا، بصورة خاصة، ميزات عديدة تجعلها الأبرز بين المغاور كمعلم سياحي، أولها وجودها في وادي نهر الكلب الذي تكثر فيها المغاور. وقد وجدت فيه أيضاً مغارتان من حقبة ما قبل التاريخ بصورة تؤكد أنها كانت مسكونة قبل آلاف السنوات، كما أن مغارة جعيتا التي تتربع على عرش المغاور الطبيعية في لبنان بطولها الذي يتجاوز 9 آلاف متر مع الأجزاء لا تزال طور الاستكشاف، تتميز بكونها قريبة من العاصمة، هذا ما يميزها عن باقي المغاور التي تكون موجودة عادة في قرى بعيدة. أيضاً للمغارة تاريخ طويل ويؤكد أن الطبقة الكلسية التي خرجت منها من هوابط وصواعد بدأت تتشكل من ملايين السنوات. وفي دراسة أجريت على أحد الهوابط المكسورة فيها بطول متر و20 سنيتمتراً تشكلت خلال 11 ألف سنة. وهي تظهر في الوقت نفسه تقلب مناخ لبنان بصورة جذرية من آلاف السنوات إلى اليوم لأنه من الممكن ربط المناخ بعلم الآثار. أهمية المغارة أيضاً في كونها تضم أقدم طبقة كلسية، إضافة إلى فترة اكتشافها الطويلة، وكذلك هي أول مغارة سياحية مع طرقات وإنارة خاصة، وقد أقيم فيها الحفل الأول من نوعه في العالم. لذلك، نافست قلعة بعلبك في حقبة من الحقب كمعلم وطني سياحي ورمز للبنان. أما مغارة قاديشا المشابهة لها فقد خرجت من ردميات في الجبل، مما يعد نادراً في لبنان، إلا أنها تشبه مغارة جعيتا من حيث تشكيل الهوابط والصواعد فيها، وإن كانت مساحتها لا تتخطى 1000 متر'، وبحسب طوق أيضاً 'يبقى الشعور لدى زيارتها مختلفاً عن ذاك الذي في زيارة مغارة جعيتا، فمغارة قاديشا أكثر برودة بـ10 درجات وفي زيارتها إحساس مختلف. وفي كل الحالات تختلف كل مغارة في لبنان عن الأخرى'.

ثمة أصول معينة لزيارة المغاور، فإلى جانب ما هناك من تدابير للحفاظ على المغاور في الزيارات من الأضرار، هناك معايير ترتبط بسلامة الزوار منها وجوب دخول ثلاثة أشخاص في الأقل إليها، مما يسمح بتجنب أي حوادث يمكن أن تحصل بدخول شخص واحد من دون مرافقة، وأن ثمة تدريباً مكثفاً يجرى لدخول المغاور، وثمة إنارة خاصة وملابس مناسبة تعتمد، أما التجهيزات كالحبال والمعدات الأخرى، فيجري التحقق منها وتغييرها بصورة دورية لتجنب الحوادث، وأوضح طوق أن من يدخل إلى المغارة يخضع إلى تدريب من الصفر، كأنه لم يخض التجربة سابقاً، مع الإشارة إلى أن النادي والخبراء يقيمون ورش عمل ودورات في لبنان وبعثات في الخارج.

من أصل قرابة 600 مغارة في لبنان هناك نحو 7 منها فقط سياحية، مثل مغارات الريحان (جنوب) وجعيتا، وقاديشا، وعين وزين (جبل لبنان)، علماً أن الخبراء في المغاور لا يحبذون تحويل المغاور إلى سياحية حفاظاً عليها وتجنباً للأضرار التي يمكن أن تحصل فيها بسبب دخول الناس إليها.

وختم طوق 'لدينا مغاور رائعة، ومنذ 75 سنة إلى اليوم لم تحصل أضرار في المغاور كتلك التي تحصل اليوم، لذلك ليس من المفترض أن تتحول المغاور إلى سياحية، بل الأفضل أن تبقى إرثاً للأجيال المقبلة فلا تدمر، وتكفي 7 مغاور سياحية في لبنان، علماً أن أجمل مغاور العالم الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية وطولها 20 كيلومتراً هي مقفلة حفاظاً عليها. وفي الزيارات في المغاور السياحية ليس التصوير والصوت إذا كان خفيفاً فذلك لا يسبب ضرراً، كما أن التصوير من دون إضاءة ممكن، لكن الأذى يأتي من دخول الإنسان إلى المغارة، فوجوده يرفع الحرارة في الداخل ويزيد من ثاني أكسيد الكربون فيها، حيث يكون مرتفعاً أصلاً، كما أن الرطوبة يجب أن تراوح ما بين 90 و100 في المئة ويجب ألا تنخفض أبداً. وإذا ارتفعت الحرارة يتغير كل شيء في المغارة ويحصل الضرر تلقائياً. فوجود الإنسان بذاته هو الأذى، خصوصاً في حال عدم اعتماد الإنارة المناسبة'.