مولدات الكهرباء "تضيء" شبكات الفساد في لبنان

أصحاب المصالح عطلوا تطوير شبكات الطاقة على مدار 30 عاماً والمواد السرطانية تضاعفت في الهواء نتيجة التشغيل الكثيف

علت صرخة في لبنان، تنبه إلى الخطر الداهم على أهله من المولدات الكهربائية المزروعة كالفطر في كل مدينة وقرية وحي، وتأثيرها في صحة الناس وتنامي أمراض السرطان وغيرها من الأمراض التنفسية. وبينما انفلت زمام السيطرة على قطاع الكهرباء من الحكومة بعد أن كلف اللبنانيين مليارات الدولارات من خزينتهم وجيوبهم، تحول قطاع المولدات الكهربائية إلى بديل يشبه 'المافيا' التي لا غنى عنها في مختلف بيوت اللبنانيين، من غنيهم إلى فقيرهم، حتى بدا هذا القطاع أقوى من الدولة ووزاراتها.

ثمة قطاعات لا حصر لها تتلاقى مع قطاع المولدات، من المحروقات إلى شبكات التمديدات إلى قطع الغيار وآلاف فرص العمل، باتت تقبض كلها على رقاب اللبنانيين تحت مصطلح 'قوة الضرورة' إذ لا بدائل تلوح في الأفق بعد أكثر من 30 عاماً من تقهقر شركة كهرباء لبنان، الشركة الرسمية، على رغم كل الضجيج الذي دار ويدور عن إمكانية تعافيها وإقامة المحطات اللازمة التي تعيد لهذا القطاع مجده، بعد عشرات الدراسات والتوقعات ومليارات الدولارات التي أنفقت على القطاع من الخزانة العامة لتسديد عجز الشركة، التي سرعان ما كانت تنهار على أبواب صفقات المحروقات والصراعات السياسية التي تتداخل في أتونها. وكل ما تفعله شركة كهرباء لبنان اليوم أنها تزود اللبنانيين بطاقة متقطعة تراوح بين ساعتين إلى ست ساعات، سرعان ما تتدنى مع إعلان مشكلة طرأت هنا أو هناك، مما يزيد من تمسك الناس بالطاقة البديلة من المولدات الخاصة.

انبعاثات سرطانية

في مطلع أبريل (نيسان) الجاري كشفت النائبة في البرلمان اللبناني نجاة عون صليبا عن دراسة، قالت إنها أجرتها حول التلوث الهوائي 'فأظهرت ارتفاع نسبة تلوث الهواء التي ترتبط بأمراض القلب والرئتين إضافة إلى مرض السرطان في حالات التنشق المزمن'. وفي حديث إذاعي أكدت صليبا أن 'الدراسة التي تركزت في بيروت بينت أن المواد السرطانية تضاعفت نتيجة تشغيل كثيف للمولدات الكهربائية وأن التلوث الكبير ناتج منها. وأنه لا يمكن الاستمرار في العمل بالشكل الحالي ونشر السموم بين الناس في ظل غياب أي استراتيجية أو رؤية لدى الوزارات المعنية لتأمين البدائل للمولدات بين المنازل'.

وذكرت صليبا بتعميمين صادرين عن وزارة البيئة في لبنان 'الأول يلزم أصحاب المولدات الصغيرة بوضع فيلتر (مصفاة) للقضاء على الجزيئيات الملوثة، والثاني يلزم أصحاب المولدات الكبيرة بوضع فلاتر أكثر تطوراً للقضاء على الجزيئيات الصغيرة وإن كانت كلفتها مرتفعة، لكن لا بد من الالتزام بهذا الموضوع الأساس'.

9 آلاف مولد في بيروت

وكان قد سبق لوزير البيئة الدكتور ناصر ياسين أن أصدر بتاريخ الأول من سبتمبر (أيلول) 2023 تعميماً إلى جميع المحافظين والبلديات، يحدد فيه 'مواصفات ملزمة حول كيفية تشغيل واستثمار المولدات الكهربائية، بهدف الحد من الملوثات الناتجة منها والتي تنتشر في الأحياء بطريقة عشوائية وفي ظل التقنين الكبير في التغذية الكهربائية الذي تشهده المناطق اللبنانية'.

واستند التعميم إلى 'الدراسات ذات الصلة التي تقوم بها وزارة البيئة والجامعات اللبنانية وآخرها من قبل الجامعة الأميركية في بيروت والتي أظهرت التأثيرات السلبية للمولدات الكهربائية في الصحة والبيئة، والمقدر عددها بالآلاف، حيث يوجد 9 آلاف مولد في بيروت الإدارية وحدها'. ويلزم هذا التعميم 'معالجة دخان عوادم المولدات بشكل فوري عبر تزويد عادم المولد الكهربائي بنظام فعال وأكثر كفاءة يمكنه إزالة حتى الجزيئات الدقيقة، إضافة إلى تحديد شروط الحد الأدنى لارتفاع العادم، مع فرض الصيانة الدورية'. وللمرة الأولى، ألزم أصحاب المولدات باستخدام فلتر سخام لجسيمات الديزل للمولدات ذات الطاقة الحرارية التي تفوق 200 كيلو واط، حيث يعد هذا الموضوع نقطة تحول للحد من تلوث الهواء.

وزير البيئة: المولدات نقيضة المنطق

توجهت 'اندبندنت عربية' إلى وزير البيئة الدكتور ناصر ياسين لسؤاله عن سبب تأخر الدولة ووزاراتها في ضبط تشغيل المولدات؟ فأجاب بأن 'وزارة البيئة أصدرت في الخريف الماضي إرشادات محدثة وأكثر صرامة في شأن وضع فلاتر للمولدات الكهربائية وطلبت من المحافظين والإدارات المحلية تطبيقها على المولدات كبيرة الحجم العاملة في نطاقها. لكن العمل يسير ببطء'.

ويضيف، 'مع ذلك فإن المشكلة الرئيسة تكمن في الارتفاع الكبير باستخدام المولدات كمصدر أساس للكهرباء عوضاً عن الشبكة. الحل هو أن تتحسن التغذية من قبل شركة كهرباء لبنان وأن تنتج الكهرباء من مزيج طاقوي، بما في ذلك مصادر الطاقة المتجددة، فوجود هذا العدد الكبير من المولدات الكهربائية واستخدامها في معظم الأوقات يعد أمراً نقيضاً للمنطق ويجب الحد منه'.

إلى جانب موقف وزير البيئة، يجمع متابعون على أن هذه التعاميم لم تلق طريقها بعد إلى التطبيق والالتزام التامين، ولما تزل المولدات تشتغل على عواهنها، ناشرة أدخنتها الملوثة في كل اتجاه، وما زالت المستشفيات تعج بمرضى السرطان والأمراض التنفسية الناتجة من التلوث الهوائي.

في سؤال الخبير الاقتصادي الدكتور كمال حمدان عن 'القوة الكامنة' وراء الاستثمار السياسي والتجاري بقطاع الكهرباء، يجيب 'لأن الكهرباء منصة أساسية لتوليد مداخيل واقتطاع مداخيل لمصلحة شبكات في الأسواق لها طابع احتكاري، كأسواق المحروقات والفيول والغاز وغيرها، وهي ذات حجم كبير جداً، نحكي عن مليارات الدولارات غير التجهيز، كاستيراد المشتقات النفطية فثمة أموال كثيرة، وهذا يفتح شهية أطراف الطبقة السياسية'.

شبكة أصحاب المولدات

من العراقيل التي تمنع استقامة وانتظام هذا القطاع برأي حمدان 'أولاً المصالح الكبيرة والاحتكار الموجود، أضيف إليها بعد انهيار المرفق العام شبكة أصحاب المولدات بنسبة ما، منهم من يتقاطعون بخريطتهم وتوزيعهم مع القوى المسيطرة على الأرض، نحكي عن مبالغ كبيرة وآلاف فرص العمل لأناس لم يكن عندها بدائل أخرى تشتغلها، صارت متفرغة لحراسة المولدات والشبكات وتمديد الأسلاك مستفيدة في أحيان كثيرة من الملك العام والأرصفة والمساحات العامة والأعمدة الكهربائية'.

وعن الحل؟ يقول: 'لن يكون هناك حل إذا لم يكن ثمة جزء مندرج في الإطار السياسي، بحكومة من نوع آخر لها صلاحيات مطلقة من خارج أطياف الحكم، تمارس الحساب الاقتصادي ونتائجه الاجتماعية بشكل صارم، إذا لم يكن الحل من هذا الطريق فلا حل وكي يتحقق نحتاج ثورة كالثورة الفرنسية عام 1789، كي ينتظم مرفق كهذا'.

أين الإجراءات الوقائية؟

نسأل الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح الذي شارك في عديد من الدراسات حول المخطط التوجيهي لكهرباء لبنان، عن كيفية تفادي مضار وآثار المولدات على صحة الناس، فيجيب: 'لا حل أمامنا إلا بإجراءات وقائية، فكهرباء لبنان لا تلبي حاجة المواطنين في إنتاجها للطاقة، ما أتاح للمولدات أن تحل محل الدولة. المطلوب تدخل الوزارات المعنية لخلق ضوابط لموضوع التلوث الناتج من المولدات كرفع العوادم إلى مناطق عالية، وتركيب فلاتر، وكواتم للصوت لتخفيف التلوث السمعي. للأسف، الفلتان هو سبب المشكلة وليس المولدات بحد ذاتها'.

لماذا عجزت الدولة ونجحت شبكة المولدات في تأمين الطاقة؟ يجيب قديح: 'نحن إذا سألنا أنفسنا لماذا خلال 30 سنة لم تستطع السلطة أن تؤمن كهرباء في لبنان؟ الجواب واضح، لأنها عاجزة عن تنفيذ هذه المهمة، بل لأن هناك مصالح جعلت من المولدات خياراً بديلاً عن كهرباء الدولة، وموازناته ضخمة جداً تقاس بمليارات الدولارات، فهناك مصالح تلعب دورها في هذا الموضوع ليس لعجز تقني، كنت مع الفريق الفرنسي الذي أتى إلى لبنان بين 2007 و2008 وأعد دراسة المخطط التوجيهي للكهرباء في لبنان، وقدم الفرنسيون مشروعاً يلبي حاجة لبنان من الآن وحتى عام 2025، ويحتاج إلى خمسة معامل كهرباء في لبنان بقوة معمل الزهراني أو دير عمار، الدولة لم تنفذ هذا الأمر، اختلفوا لأن الخيارات السياسية واضحة منذ زمن'.

ويضيف قديح: 'حتى نستطيع تلبية حاجة الناس يجب إنشاء خمسة معامل في لبنان، وهي تحتاج إلى قرار حكومي، بكلفة 2.5 مليار دولار، مع أن خسائر الدولة في الكهرباء كانت ملياري دولار في السنة ولا كهرباء، إنه شيء فوق الخيال ما يحصل في لبنان'.

ما هو السبب؟ يرد: 'برأيي وبرأي كثيرين من اللبنانيين، هناك مصالح مافيات ركبت على حساب العجز في الكهرباء كي تغطيه المولدات، منها مافيات النفط ومافيات الاستيراد وعديد منها وقفت أمام تطور البلد خلال 30 سنة من حكمها، فأوصلته إلى هذا الدرك. مشروع الكهرباء لا يكلف أكثر من نصف مليون دولار مع تحسين الشبكات ومحطات الوصل والتوزيع والإنتاج، نحكي عن مصر 120 مليون نسمة، سكان القاهرة أكثر من سكان لبنان بكثير، وبلاد أفريقية يتجاوز عدد سكانها 20 مليون نسمة. مشكلة لبنان ليست تقنية نهائياً، مشكلته أنه تحكمه مجموعة من المافيات ومصلحتها وقفت بوجه تقدم البلد وتطوره'.

معايير بقوة الإلزام

يضيف، 'لنحكي بالوقائع وليس بالخيال، طالما أن هناك عجزاً بتلبية حاجة البلد بكهرباء الدولة، من مؤسسة كهرباء لبنان، فالمولدات هي حاجة موضوعية، ومن أوصل هذا القطاع وهذا الواقع إلى هذا المستوى من التردي هي سياسات الحكومة المافياوية. ماذا نفعل؟ هل نترك المولدات تعمل ضمن هذه الفوضى من دون رقابة ومن دون ضوابط ومن دون معايير والتزام بالمعايير الصحية والبيئية؟ أنا أقول لا. فلا بد من احترام حد أدنى من المعايير، التي تحمي البيئة والصحة العامة للناس وهذا أمر غير مكلف على أصحاب المولدات، لكنه يحتاج إلى سلطة تفرضه'.