اخبار لبنان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٦ نيسان ٢٠٢٥
ثورات الربيع العربي تؤكد أن معارك بيروت كانت مدرسة تعلمت فيها بلدان عدة تعميق الصراعات الطائفية
نصف قرن ليس العمر الحقيقي لـ 'حرب لبنان' التي بدأت رسمياً في الـ 13 من أبريل (نيسان) 1975، وعملياً قبل أحداث عام 1958 التي كانت التمرين الأول على الحرب بعد الاستقلال، ولا حرب في لبنان منذ القرن الـ 19 إلى اليوم، بل كانت حرب اللبنانيين وحدهم أو حرب الآخرين وحدهم، وهي كانت ولا تزال صراعاً محلياً على السلطة يدار بقوى تتصارع خارجياً، ولعبة أهداف خارجية تدور في الداخل بالرصاص، نهاية الإمارة الشهابية كانت في حرب إبراهيم باشا الداعم للأمير بشير ومعهما دول أوروبية ضد السلطنة العثمانية المدعومة من دول أوروبية.
تسوية 'القائمقاميتين' المارونية والدرزية هندسها مستشار النمسا كليمنس مترنيخ، والمتصرفية بعد حرب 1860 التي امتدت نيرانها ومجازرها إلى دمشق ولدت على أيدي الدول السبع الكبرى في تلك الأيام، وحرب عام 1958 التي بدأت لأسباب سياسية محلية وإقليمية ودولية عبر الصراع بين 'حلف بغداد' و'التيار القومي العربي' بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر انتهت باتفاق أميركي - مصري مُهد له في بيروت والقاهرة روبرت مورفي، مستشار الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور.
وحرب لبنان التي هي سلسلة حروب كانت في وقت واحد حرب تغيير النظام أو الحفاظ عليه، وحرب الاستخدام الفلسطيني للبنان في القيام بعمليات عسكرية فدائية ضد إسرائيل، وهي لم تنتهِ وإن توقفت لأن الأسباب التي قادت إليها لا تزال بلا معالجة، وأخطرها تحميل الموزاييك اللبناني في الوطن الصغير أحمال القضية الفلسطينية وأثقال الصراعات والطموحات السورية والإسرائيلية والإيرانية، في ظل صراع بين واشنطن وموسكو واندفاعات عربية وإقليمية.
قاد الدور الفلسطيني، بطبائع الأمور، إلى دور عسكري إسرائيلي ودور عسكري سوري، حيث تولت أميركا ترتيب اتفاق 'الخطوط الحمر' بين سوريا وإسرائيل، ولا دور أميركياً من دون أن يقابله دور سوفياتي قبل أن يعود روسياً وتتحرك على هامشه أدوات أدوار أوروبية وعربية وإقليمية، وما إن اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982 وأخرجت 'منظمة التحرير' منه حتى أسست إيران 'حزب الله' وسلّحته وموّلته وأعطته دوراً إقليمياً فوق هيمنته على بيروت، ذلك أن من الوهم قراءة حرب لبنان على المسرح اللبناني فقط، كما في إطار مرحلة واحدة فقط، فلا نحن خارج تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي على مدى 100عام، من الحروب إلى وقف النار و'معاهدة كامب ديفيد' و'سلام وادي عربة' و'اتفاق أوسلو'، وصولاً إلى عملية 'طوفان الأقصى' وحرب غزة و'حرب الإسناد' على يد 'حزب الله' ثم سقوط النظام السوري.
ولا كان تأثير الثورة الإسلامية في إيران على لبنان مسألة قليلة التعقيد والخطورة، لجهة الدخول في النسيج الاجتماعي و'عسكرة' طرف مذهبي أيديولوجي واحد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التلاعب السوري بلبنان الذي جعلته دمشق بحيرة صيد خاصة بها مع رخصة لإيران عبر 'حزب الله'، وأمسكت بكل مفاصله وفعلت كل ما تريد، باستثناء ضمه رسمياً إليها لئلّا تتحمل المسؤولية عنه.
أما اللاعب الإسرائيلي فإنه لم يتوقف بعد الاجتياح والانسحاب تحت ضغط المقاومة عام 2000، بل استمر عبر حربين مع 'حزب الله' والتلويح بحرب أخرى تكمل الحرب الأخيرة، وأما العصا الغليظة فإنها اليوم في يد الرئيس دونالد ترمب الداعم لبنيامين نتنياهو والمصرّ على تغيير الشرق الأوسط من دون تسوية سياسية على أساس 'حل الدولتين'، وأقل ما كشفته ثورات ما سمي بـ 'الربيع العربي' هو أن حرب لبنان كانت المدرسة التي تعلمت فيها بلدان عدة داخل المنطقة تعميق الصراعات الطائفية، حيث تفوق التلاميذ على الأساتذة في فن الحروب الأهلية المدارة بصراعات وقوى داخلية وخارجية، وأبسط ما قاد إليه الغزو الأميركي للعراق هو ضرب فكرة الدولة والحداثة الوطنية، وما كان ريتشارد هيلمز الذي عمل في الماضي مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ثم سفيراً لدى طهران أيام الشاه في حال هلوسة حين قال، 'انسوا كل الهراء حول السياسة في الشرق الأوسط، وانتبهوا إلى أشياء عمرها قرون: المذاهب، الأعراق، العشائر، والقبائل'.
صحيح 'أن حرباً تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب'، كما قال المؤرخ تشارلز نيكي، لكن الواقع في المنطقة أن الحروب لم تصنع دولاً بل هدمت الحجر الأساس للدول ووضعت المصير في أيدي الميليشيات، والميليشيات هي البنية التحتية للحرب الأهلية' بحسب المسؤول الأميركي سابقاً من أصل أفغاني زالماي خليل زاد، وأية نظرة إلى المشهد في لبنان والشرق الأوسط بعد نصف قرن وأكثر على حرب لبنان والحروب التي كانت هي القابلة القانونية لولادتها تؤكد أن ظهور 'القاعدة' و'داعش' أقرب للقاعدة منه إلى الاستثناء، فالعلاقات الداخلية في أكثر من بلد، بين من هم نظرياً شركاء في الوطن، متأثرة كثيراً بنوع من تخصيب الحقد والكراهية والعنف والحروب، والكلام على التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية حتى في التفاصيل صار عادياً ومألوفاً، لا بل إن بطاقات الدعوة إلى التدخل الخارجي باتت على الموضة.
يقول مايكل مان في كتابه 'عن الحروب' إن 'من الصعب أن تجد وترى مقاصد عقلانية للحروب، وإن الطبيعة الإنسانية لا تدفع البلدان إلى حروب، فالحروب تصنعها خيارات القادة'، لكن خيارات القادة ليست دائماً خيارات تفرضها الظروف، سواء كانت عقلانية أو غير عقلانية، وليس لحرب لبنان سيناريو واحد ولا مؤلف واحد ولا مخرج واحد.