اخبار لبنان
موقع كل يوم -الميادين
نشر بتاريخ: ٢٧ أيار ٢٠٢٣
لم يبقَ من بيروت إلا حجارة حُفِرَ بين طينها حكايا العشّاق، حتى أشجار الجمّيز في شوارعها صارعت الحرب ولم تستسلم، بل دافعت عن جذورها حتى النَّفس الأخير وانتصرت.
في مقهى 'أبو العبد'، ذلك المكان العتيق القابع في منطقة عين المريسة في بيروت، يأتيني صوت فيروز شجياً يحرّك أشجان قلبي: 'في قهوة عَ المفرق في موقدة وفي نار'، وأنا أهزّ رأسي مع اللحن طارداً منه ذكريات زمن ولّى. زمن انتزع في أفئدتنا مسكناً له، وزرع في أرواحنا أنيناً سيرافقنا حتى مثوانا الأخير.
تتابع فيروز بحنجرتها الرنّانة 'نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار'. أنصتُ إليها رغم هدير الأمواج المتلاطمة على أطراف كرسيّ خشبيّ، ألوذ به كل مساء أشاركه خيباتي وهزائمي، ممسكاً بيدي حجارة صغيرة أرميها بين الفينة والأخرى في عرض البحر، متأمّلاً انتحار إلهة النور عند الأصيل، هارباً من ماضٍ التهم شبابي ورماني عجوزاً هزيلاً في الثمانين، لا حول له ولا قوّة.
لكنَّه الحنين يأبى أن يغادرني. أفرّ منه، أغمض عيني كي لا يراني، لكن لا مناص من ذلك، غباره يدخل بين جفوني، ويستثير في مقلتيّ دموع الشوق إلى تلك الأيام.
كنّا في العام 1975 شباباً في الثلاثين، وكانت بيروت عروس العواصم، مدينة الحضارة والرقيّ، وعاصمة الأزياء والثقافة والحياة والمهرجانات والمسارح. تشهد أنقاض مسرح البيكاديللي في شارع الحمرا على ذلك العصر الأسطوري، بشيبه وشبّانه، بالمدعوّين إلى حفلات فيروز التي أُقيمَت على خشبته. كراسيه المهترئة تحتفظ برائحة ثيابهم، بين تصدّعات جدرانه ألف قبلة وآلاف الهمسات. لكنهم دمّرونا بطائفيتهم وأحزابهم اللعينة، ومن أجل الجاه والسلطة، أرجعونا آلاف الأعوام إلى العدم.
لم يبقَ من بيروت إلا حجارة حُفِرَ بين طينها حكايا العشّاق، حتى أشجار الجمّيز في شوارعها صارعت الحرب ولم تستسلم، بل دافعت عن جذورها حتى النَّفس الأخير وانتصرت، بفنادقها وبناياتها المنتشرة على جوانب الطريق.
في ذلك الوقت كان الحبّ عصفوراً يغرّد في شرايين قلبي لفتاتي المسيحيّة، التي تسكن في إحدى بنايات ساحة البرج، ولكي أراها كنت أرتدي بنطالي 'الشرلستون' الذي أحتفظ به للمناسبات السعيدة، مع قميص مقلّم بكمّين طويلين، وأهندِمُ شعري الطويل غير المتناسق، ثمَّ أقصد تمثال الشهداء أستظلّ به، أنتظرها هناك حتى تمرّ إلى جانبي، تسبقني بخطوات وألاحقها بتأنٍ مخافة أن يكشفنا أحد أقاربها ممن يسكنون في الجوار. ما زلتُ أذكر فستانها ذا التطريزة الباريسيَّة الذي يغطّي جسدها البضّ حتى ركبتيها، بأكمامه القصيرة وياقته الملكيَّة، تتمايل أمام ناظريَّ بغنج، وأذناي تطربان لوقع كعبها على الأسمنت.
وعندما التقينا تعانقنا بلهفة، ولثمتُ حبَّتي الفراولة حتى الثمالة، محتضناً خصرها المنحوت، نغرّد عشقاً، نسكب في زبد البحر همساتنا، ثمَّ عند الفراق نتواعد بقبلة منتشية أن نلتقي غداً.
لكن كانت للغد حكاية أخرى...
تدَّثرنا ليلاً بالهيام، واستيقظنا فجراً على أصوات المدافع!
ربَّما مكتوب لنا ألا نلتقي أبداً، أن نفترق دهوراً.
تلك الأعوام شهدت انتقال بيروت من الأزياء الباريسيَّة إلى البزات العسكرية، ومن السيارات الكلاسيكيَّة إلى الدبابات، ومن الحفلات الموسيقيَّة إلى مناورات 'الآر بي جي'، ومن أيقونة الجمال في الشرق الأوسط إلى حرب الشوارع وقنص الأرواح البريئة من على قبب المساجد والكنائس، ومن أسطورة التعدّد الطائفي إلى كوابيس حواجز القتل على الهويّة، فما الذي زرعناه كي نحصد كل هذا الدمار؟
عدتُ من دهاليز ذاكرتي جزعاً مرتجفاً إلى كرسيي الخشبي، وجدتُ النادل يحيّيني بابتسامة قبل أن يضع فنجان القهوة أمامي. تأمَّلتُ البخار المتصاعد من قهوتي المرَّة كمرارة روحي، صوت فيروز سلوتنا في الملاجئ، يردع عنا قصف المعارك، بقي صامداً وحده يصدح حتى الآن في أرجاء المقهى: 'قعدوا على مقاعدنا سرقوا منّا المشوار'.
مسحتُ دمعتي، وكرَّرتُ بصمت 'سرقوا منّا المشوار'.