اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٥ أيار ٢٠٢٥
وديع الخازن*
بالأمس، غاب عن عالمنا رجل من طراز فريد، رجل لم يكن فقط شاهداً على حقبة ذهبية من الاقتصاد اللبناني، بل كان صانعاً لها، ومهندساً من مهندسي ازدهارها: السيد عدنان القصار، مؤسس «فرنسا بنك» وعميد من أعمدة الاقتصاد الحرّ، العابر للحدود والمواقف، والعامل بصمت وثقة من أجل وطنٍ آمن به حتى النفس الأخير.
رحل عدنان القصار، ولبنان والعالم العربي يودّعان واحداً من أعظم رجالات المال والأعمال، رجلاً حمل اسمه كما حمل مؤسساته بوقار واحترام، وترك وراءه إرثاً يصعب اختصاره في كلمات، مهما كثرت.
لقد كان عدنان القصار أكثر من مصرفي ناجح. كان رؤية اقتصادية شاملة، ومنظومة أخلاقية لا تنفصل عن العمل المالي. أسّس «فرنسا بنك» ليكون من أوائل البنوك التي جمعت بين الانفتاح الدولي والجذور المحلية، فشكّل مع مرور الزمن أحد أعمدة القطاع المصرفي اللبناني، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث الموثوقية والاحتراف والالتزام بالمعايير العالمية.
تحت قيادته، لم يكن «فرنسا بنك» مجرد مصرف، بل مؤسسة وطنية شاملة، دعمت المشاريع الإنتاجية، وشجعت الاستثمار الحقيقي، وساندت قطاعات الصناعة، والزراعة، والتجارة، ووقفت إلى جانب المواطن اللبناني في أصعب الظروف. وكان ذلك نابعاً من إيمانه العميق بأن لا اقتصاد سليم من دون إنتاج، ولا إنتاج من دون دعم مستدام وبيئة مصرفية صلبة ومرنة في آن.
ولم يتوقف عطاؤه عند حدود المصرف. فقد شغل رئاسة الهيئات الاقتصادية اللبنانية لفترات طويلة، وكان دائماً صوت العقل والحوار في مواجهة الأزمات المتلاحقة. لم يعرف المزايدة، بل عرف كيف يحوّل التحديات إلى فرص. كان له دور بارز في ربط الاقتصاد اللبناني بالعالم العربي، من خلال ترؤسه اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة العربية، حيث عمل على توسيع مجالات التعاون، وتوحيد الرؤى، وتعزيز التبادل التجاري بين الدول العربية، في زمن كانت فيه الوحدة الاقتصادية حلماً لا زال بعيد المنال.
وعلى الصعيد الدولي، كان عدنان القصار سفيراً فوق العادة للبنان في المحافل الاقتصادية. نال أوسمة وتكريمات من دول عدّة، بينها فرنسا وألمانيا وإيطاليا والصين، لكنه بقي متواضعاً، متمسّكاً بجذوره، حريصاً على إبقاء مركز قراره في بيروت، رغم العواصف التي مرَّ بها البلد.
ما ميّز الراحل الكبير أيضاً هو روحه الوفية والتزامه الأخلاقي. لم يكن المال هدفه الأول، بل كان وسيلة للبناء وخدمة المجتمع. كان كريماً في عطائه، داعماً لمبادرات التنمية، شريكاً في الكثير من المؤسسات غير الربحية، وراعياً للثقافة والفكر.
أذكر مجالسه الغنية بالأفكار والنقاشات، كم كانت بعيدة عن الاستعراض وقريبة من جوهر الأمور. كان منصتاً حكيماً، لا يقاطع، ولا يُملي، بل يشارك بعقلٍ منفتح ونيّة صافية. وكان مرجعاً في كل ما يخص الاقتصاد اللبناني، يُستشار في المحطات المفصلية، ويُعوّل على رؤيته في لحظات الشكّ.
رحل عدنان القصار، ولكن بصماته ستبقى محفورة في ذاكرة الوطن، وفي دفاتر المصارف، وفي مكاتب الصناعيين والتجار، وفي نفوس كل من عرفه. لقد علّمنا أن رجل الأعمال لا يُقاس فقط بالأرباح، بل بما يتركه من ثقة، ومؤسسات، وتوازن، ومسؤولية اجتماعية.
إلى روحه الرحمة، وإلى عائلته الكريمة كل العزاء. فقد خسرنا جميعاً رجلاً من زمن الكبار، وركناً من أركان الاقتصاد البنّاء، ولكننا نكمل المسيرة على خطاه، ونستلهم من رؤيته قوة للاستمرار في خدمة هذا الوطن الجريح الذي كان يحبه من الأعماق.
وداعاً عدنان القصّار... ستبقى حاضراً في القلب والوجدان.
* عميد المجلس العام الماروني - وزير سابق