الانسحاب السوري (٣/٢)… إرتياب من عودة الحريري الى السلطة

بعد العودة القوية للرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الحكم عام 2000، بغطاء شعبي عارم وكتلة نيابية وازنة، وفي ظل ممارسات مراكز القوى السياسية والمخابراتية المناوئة له، يمكن وصف علاقته بالرئيسين بشار الأسد واميل لحود بما يشبه 'الزواج بالإكراه'. في ذلك الوقت، شهدت المنطقة تطوراً بارزاً، (أسس لمتغيرات جذرية فيها)، تمثل في إحتلال العراق وإسقاط حكم الرئيس صدام حسين ووصول القوات الأميركية إلى الحدود السورية.

أما على الصعيد المحلي، فقد تفاقم الخلاف بين لحود والحريري، ما دفع الأخير الى التموضع (على طريقته 'الناعمة') على مسافة قريبة من المعارضة، التي بدأت تتنامى بصورة ملحوظة، بعد مصالحة الجبل وبيان مجلس المطارنة، بحيث شكل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير غطاءً كنسياً للقاء 'قرنة شهوان' الذي جمع المعارضين المسيحيين، لتتبلور سريعاً تلك المعارضة مع تأسيس 'لقاء البريستول'، الذي كان عرّابه النائب وليد جنبلاط، وضمّ شخصيات من خارج 'العداء التاريخي لسوريا'.

واتُهم الرئيس الحريري من 'أتباع' النظام بأنه يقف خلف نشأة 'اللقاء'، معللين مشاركة ثلاثة نواب مقرّبين منه في إجتماعاته، وهم باسم السبع وغطاس خوري والشهيد باسل فليحان، الأمر الذي جعل النظام السوري يرتاب من ذلك 'اللقاء'، فحرّك حلفاءه لمواجهته، خصوصاً مع بداية تسرب المعلومات عن التحضير للقرار الأممي 1559، والذي اتهم الحريري من خلال الرئيس جاك شراك بالوقوف خلفه، ما وضعه تحت ضغط كبير. وشنت حملات ممنهجة ومنظمة ومكثفة عليه بأبشع العبارات، حتى وجهت اليه رسالة أمنية بقصف مبنى أخبار تلفزيون 'المستقبل' بصاروخين.

وفي أول تشرين الأول 2004 جرت محاولة اغتيال النائب مروان حمادة من كتلة جنبلاط النيابية، والمقرّب جداً من الحريري، واعتبرت رسالة دامية للحريري وجنبلاط، لتكشف بوضوح أن الأزمة بلغت حداً عميقاً، يستحيل معه التعايش السياسي بين نهجين متناقضين، خصوصاً مع إقتراب موعدين مفصليين على الصعيد اللبناني: انتهاء ولاية لحود، والانتخابات النيابية في ربيع 2005.

وهنا، تقتضي الأمانة التاريخية إعادة التذكير بالمبادرة الوطنية الكبيرة للشهيد رفيق الحريري، (الحريص على عدم نقل الأزمة السياسية إلى صراع مذهبي و/أو طائفي)، بحيث دخل في سلسلة حوارات عميقة مع الأمين العام لـ 'حزب الله' السيد حسن نصر الله، والعمل على تأسيس علاقة ثنائية متينة وراسخة، تقوم على الصراحة المطلقة في مناقشة كل القضايا الخلافية، لإراحة الطرفين، وبالتالي البلد بأسره، وكان الشهيد وسام الحسن والصحافي الراحل مصطفى ناصر عرّابي تلك الحوارات ومهندسيها.

لكن يبدو أن الأزمة السياسية المتعددة الأبعاد بتعقيداتها الداخلية والخارجية، كانت أكبر من كل التفاهمات والحوارات العقلانية، ما أبقى الحريري هدفاً للإغتيال السياسي والجسدي. وعلى الرغم من التحذيرات الكثيرة التي كانت تصل إليه، والتطمينات الدولية التي يتلقاها، لم تمنع كل التدابير الاحترازية التي اتخذها عملية الاغتيال. ففي 14 شباط نفذ قرار إغتياله بتفجير 1800 كيلوغرام من مادة 'تي إن تي' بموكبه، عند مروره في منطقة عين المريسة (السان جورج).

رد الفعل الشعبي على الاغتيال كان موجّهاً ضد النظام السوري و'حزب الله'، فعلى إثر ذلك خرج آلاف اللبنانيين وبطريقة عفوية إلى شوارع العاصمة بيروت، مرددين شعار 'حرية، سيادة، استقلال'، ما دفع الى تشكيل تحالف سياسي من كبار الأحزاب اللبنانية، عرف بتحالف قوى '14 آذار'، والذي طالب بخروج الجيش السوري ومنظومته الأمنية، وتمثلت أبرز أهدافه في إقامة محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري والدفع باتجاه تطبيق القرار الأممي 1559.

لمواجهة هذه الموجة حاول النظام السوري والحزب مسح معالم مسرح جريمة الاغتيال، لكن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان سارع إلى اتخاذ قرار بإرسال بعثة لتقصي الحقائق انتهت بعد شهر إلى تقرير يطلب تشكيل لجنة تحقيق دولية وتغيير قادة أجهزة الأمن في لبنان. تدخّل مجلس الأمن لتطبيق القرار 1559، ودعم الرئيسين الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك للقرار، دفع الرئيس الأسد الى الرضوخ، وبالتالي الاعلان عن سحب جيشه من لبنان. عندها، إعتبر فريق 'المعارضة' الذي صنّف نفسه بالتيار 'السيادي' أن لبنان قد تمكن من تحقيق إستقلاله الثاني، بعد 19 عاماً من 'الاحتلال' السوري.

يتبع: إجهاض 'الاستقلال الثاني'