معجزات الشفاء: كيف يفسِّرها علم النفس؟

تُعدُّ معجزات الشفاء من الظواهر التي تجمع بين البُعد الروحي والجسدي، وتثير اهتمام الباحثين في مجالات الطب النفسي والطب العضوي. من منظور علم النفس، يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال مفاهيم ومصطلحات عدة مثل psychosomatic، placebo effect، وarchetypes. سنسعى في هذه المقالة إلى تحليل هذه الظاهرة من خلال هذه المفاهيم، مع تسليط الضوء على قوة امكانية العقل في التأثير على الجسد.

١-الشفاء الجسدي والنفسي: مفهوم الـ «نفس-جسدي» Psychosomatic

يشير مصطلح psychosomatic إلى العلاقة بين الحالة النفسية للفرد وصحته الجسدية. بمعنى آخر، كيف يمكن للضغوط النفسية مثل القلق والاكتئاب، أن تؤدي إلى ظهور أعراض جسدية مثل الصداع أو آلام المعدة….و لكن في المقابل يمكن للعوامل النفسية الإيجابية، مثل الإيمان أو التفاؤل أن تساهم في تحسين الحالة الصحية.

في سياق معجزات الشفاء، يُعتقد أن الإيمان العميق أو التجارب الروحية يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي على الصحة الجسدية، مما يؤدي إلى شفاء أعراض كانت تُعتبر مستعصية….

في هذا السياق، يُمكن الاستعانة بمفهوم الطب النفسي الجسدي كما طوّره فرانز ألكسندر (Franz Alexander)، أحد روّاد التحليل النفسي في القرن العشرين، الذي اعتبر أنّ بعض الأمراض الجسدية ليست مجرد خلل عضوي، بل هي نتيجة لصراعات نفسية غير واعية تتجسّد في الجسد. على سبيل المثال، رأى ألكسندر أنّ القرحة المعدية قد ترتبط بمشاعر القلق المكبوت أو بصراع داخلي بين الغضب المكبوت والحاجة إلى التكيّف الاجتماعي. هذا يوضح أنّ العوامل النفسية لا تقتصر على إحداث الأعراض، بل قد تساهم أيضًا في معالجتها حين يُعاد توجيه الصراع الداخلي أو التعبير عنه بشكل صحي.

وبالقياس، يمكن القول إنّ التجربة الروحية أو الإيمان العميق يعملان كقوة نفسية إيجابية تُعيد التوازن بين النفس والجسد، فتخفّف من التوترات الداخلية، وتسمح للجسد باستعادة قدرته الطبيعية على الشفاء

٢-تأثير الإيحاء: Placebo Effect

يُعرف تأثير الإيحاء أو placebo effect بأنه التحسن في الحالة الصحية للفرد نتيجة اعتقاده بأن العلاج فعال، حتى وإن كان العلاج في الواقع غير نشط. تشير الدراسات إلى أن هذا التأثير يمكن أن يؤدي إلى تحسن حقيقي في الأعراض، خاصة في حالات الألم والاكتئاب…

ومن خلال هذا المفهوم، يمكن تفسير معجزات الشفاء على أنها استجابة نفسية تؤدي إلى تأثيرات جسدية ملموسة، نتيجة للاعتقاد العميق بفعالية العلاج أو قوة الدواء «الوهمي» اي الكبسولات الفارغة .

٣-الرموز الأولية: Archetypes وتأثيرها في الشفاء.

وفقًا لعالم النفس كارل يونغ، فإن archetypes هي رموز أو أنماط نفسية أولية موجودة في اللاوعي الجمعي للبشرية... هذه الرموز، مثل 'الأم” أو 'البطل”، تؤثر في سلوكياتنا ومشاعرنا بشكل غير واع.

في سياق الشفاء، يمكن أن يرتبط الأفراد برموز معينة، مثل 'الشافي” أو 'القديس” او مثلا «أطباء السماء» «شفيع الامراض المستعصية» مما يعزز من قدرتهم على الشفاء الذاتي…. هذا الارتباط يمكن أن يكون له تأثير عميق و ملموس على الصحة النفسية والجسدية…

٤-الدعم الاجتماعي والروحي

يلعب الدعم الاجتماعي والروحي دورًا مهمًا في تعزيز الشفاء فإنّ الانتماء إلى جماعة دينية أو المشاركة في طقوس جماعية يمكن أن توفر شعورًا بالأمان والدعم، مما يساهم في تحسين الحالة النفسية والصحية…

فيشعر المريض هنا أنه تم حمله بآلامه في الصلوات الجماعية و النذور…

تشير الدراسات إلى أن الدعم الاجتماعي يمكن أن يقلل من مستويات التوتر والقلق، مما يعزز من قدرة الجسم على التعافي التام و من ثم تتحقق معجزة الشفاء…

٥-فهل يُصنَّف الشفاء هنا ظاهرة نفسية أم روحية؟

من خلال المفاهيم التي تم التطرق إليها أعلاه، يصعب وضع خط فاصل صارم بين البعد النفسي والبعد الروحي. فالصحة النفسية، كما أثبتت الدراسات الحديثة، تؤثر بصورة مباشرة على الصحة الجسدية وعلى كفاءة الجهاز المناعي. كل تجربة روحية عميقة، بما تحمله من طمأنينة داخلية، يقين، ورجاء، تترك أثرًا psychosomatic على الجسد، إذ تفعّل آليات الشفاء الذاتي وتُعيد التوازن الوظيفي للأعضاء الحيوية.

حين يؤمن الفرد إيمانًا مطلقًا بقوة القديسين المستمدّة من القوة الإلهية، فإن هذا الاعتقاد لا يبقى في دائرة المجاز الديني فحسب، بل يتحوّل إلى placebo effect معزَّز بإطار رمزي روحي. هنا يتلاقى اللاوعي الجمعي مع archetype 'الشافي”، حيث يصبح القديس أو النبي صورة نفسية كبرى تمثّل الحماية والقدرة على تخطي العجز. هذه الصورة بدورها تولّد يقينًا داخليًا يُترجم إلى استجابات جسدية حقيقية: انخفاض في مستويات التوتر، تنظيم في عمل الجهاز العصبي، وتحفيز للجهاز المناعي.

إذًا، الشفاء المعجز ليس مجرد ظاهرة روحية ولا محض ظاهرة نفسية؛ إنه نقطة التقاء بين الاثنين، حيث يعمل الإيمان كقوة مُضاعفة للفاعلية النفسية، وتصبح التجربة الروحية ذاتها محركًا بيولوجيًا يُسرّع عملية الشفاء. وبذلك، يمكن القول إن المعجزة تتجلى كظاهرة نفسية–روحية مركّبة، تؤكد أن الجسد والعقل والروح ليسوا كيانات منفصلة بل حلقات متشابكة في منظومة واحدة.

٦-حتى أنّ علم النفس العصبي، يمكنه تفسير الشفاء المعجز عبر فهم كيفية تفاعل الدماغ مع الإيمان والرموز الروحية!!

فالتجربة الإيمانية العميقة تُنشِّط مناطق أساسية في الدماغ مثل prefrontal cortex المرتبطة بالوعي والتخطيط، وamygdala المسؤولة عن معالجة الانفعالات. عندما يعيش الإنسان حالة يقين روحي قوي، تنخفض مستويات هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر، ويزداد إفراز endorphins وoxytocin، ما يخلق إحساسًا بالراحة والأمان. هذه التغيرات الكيميائية العصبية تُسهم مباشرةً في تقوية الجهاز المناعي ومكافحة الالتهابات، وهو ما يفسّر قدرة الجسد على مواجهة الأمراض المزمنة وحتى بعض الحالات المستعصية.

إضافةً إلى ذلك، تشير أبحاث psychoneuroimmunology إلى أن المعتقدات الدينية والروحانية يمكن أن تُعدّل من نشاط الخلايا المناعية (T-cells, NK cells)، وتُحسّن من قدرة الجسم على التعافي. بكلمات أخرى، ما يُسمّى 'المعجزة” قد يكون انعكاسًا لتشابك معقد بين الجهاز العصبي، الجهاز الهرموني، والجهاز المناعي، محفَّز بالإيمان الروحي الذي يعمل كمنظّم داخلي قوي.

وبهذا، يصبح الشفاء هنا مثالاً ساطعًا على كيف أن الإيمان لا يقتصر على كونه تجربة وجدانية أو طقسية، بل يتجاوز ذلك ليكون قوة بيولوجية-نفسية ملموسة، حيث تتجسد الروح في الجسد عبر مسارات عصبية وهرمونية دقيقة.

٧-هل يمكن أن يشفي الله إنسانًا بفضل صلاة الآخرين؟!

تثير بعض معجزات الشفاء سؤالًا مهمًا: ماذا يحدث عندما لا يصلّي المريض بنفسه ومع ذلك ينال شفاءً بفضل صلوات الآخرين لأجله؟ من منظور علم النفس يمكن تفسير ذلك عبر مفهوم الدعم غير المباشر، فالمريض الذي يشعر بوعي أو من دونه أنّه محمول في صلوات محيطه يختبر إحساسًا بالانتماء والأمان، مما يخفف من عزلته النفسية ويعزز جهازه العصبي والمناعي. كما أنّ وجود جماعة مؤمنة ومتفائلة حوله يخلق مناخًا نفسيًا واجتماعيًا إيجابيًا يترك أثرًا ملموسًا على مسار مرضه. ومن منظور روحي تُفهم الصلاة هنا كقوة جماعية تتجاوز حدود الفرد، حيث يشكّل المؤمنون جسرًا من الرجاء يصل المريض بالله. هذا ما يُعرف في التراث باسم الشفاعة، إذ يستجيب الله لطلب الجماعة رحمة بالمريض. وهكذا يصبح الشفاء ثمرة لقاء بين الدعم النفسي الجماعي والنعمة الإلهية، ويظهر أن الصلاة لا تغيّر المصلي فقط بل قد تبدل أيضًا واقع من تُرفع من أجله.

إذن، قرائي الاعزاء…

الأنبياء والقديسون لا يَظهرون فقط كشخصيات روحية في وجدان المؤمنين، بل يتحوّلون أيضًا إلى أدوات علاجية طبيعية تُسهم في تعزيز الصحة النفسية وتنشيط آليات الشفاء الذاتي في الجسد….وبذلك، يصبح حضورهم في العلاج النفسي والعضوي تجسيدًا عمليًا للتكامل بين الإيمان، العلم، والصحة…

لذلك نرفع الشكر الله على عطية الأنبياء والقديسين في حياتنا…لانهم جسور حيّة بين ضعفنا البشري وقدرته الإلهية، يترجمون رحمته في وجداننا ويوقظون فينا قوى الرجاء والشفاء، فيغدو حضورهم وسيلة فعّالة يلتقي فيها الجسد بالروح، والإنسان بسرّ الله العامل فيه…دمتم سالمين!

(*) معالجة نفسية