اخبار لبنان
موقع كل يوم -وزارة الإعلام اللبنانية
نشر بتاريخ: ١٧ كانون الأول ٢٠٢٥
كتبت الدكتورة فيولا مخزوم مقالا تحت عنوان “الابتكار المُؤنسن: حين تصبح التكنولوجيا في خدمة الإنسان لا بديلًا عنه”، طرحت فيه إشكالية عميقة تتجاوز البعد التقني لتلامس جوهر الإنسان ذاته، فما الذي تستطيع التكنولوجيا أن تفعله؟ بل بات: ما الذي تفعله التكنولوجيا بالإنسان؟، وجاء في المقال:
في زمن بات فيه الابتكار التكنولوجي معيارًا للتقدّم ومؤشرًا على قدرة الدول والمجتمعات على مواكبة التحوّلات العالمية، لم يعد التطوّر التقني مجرّد خيار، بل شرطًا أساسيًا للدخول إلى المستقبل. غير أنّ هذا التقدّم، على الرغم من إنجازاته المبهرة، يطرح إشكالية عميقة تتجاوز البعد التقني لتلامس جوهر الإنسان ذاته. فالسؤال لم يعد: ما الذي تستطيع التكنولوجيا أن تفعله؟ بل بات: ما الذي تفعله التكنولوجيا بالإنسان؟ وهنا تكمن المشكلة الأساسية، إذ نشهد اليوم تسارعًا في الابتكار يقابله تراجع مقلق في حضور البعد الإنساني، ما ينذر بابتكار متقدّم تقنيًا، لكنه فقير إنسانيًا.
في خضم هذا السباق العالمي، بدأت التكنولوجيا تفرض إيقاعها على حياة الأفراد والمؤسسات. تحوّل الإنسان تدريجيًا إلى مستخدم دائم، وإلى مجموعة بيانات قابلة للتحليل والتصنيف، فيما تراجعت قيم الحوار، والتفاعل الإنساني، والحكم الأخلاقي. في المجال التربوي، تُختزل العملية التعليمية في منصّات ذكية قد تفتقر إلى البعد الإنساني والعلاقة التفاعلية التي تشكّل جوهر التربية. وفي الإعلام، تُعاد صياغة الأولويات عبر خوارزميات لا تعرف السياق الاجتماعي ولا تتحمّل مسؤولية أخلاقية. أما في سوق العمل، فيتنامى القلق من إحلال الآلة مكان الإنسان، بدل توظيفها في دعم قدراته وتطوير مهاراته. هذا الواقع يفرض وقفة نقدية جادّة لإعادة النظر في مسار الابتكار الذي نسير فيه.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا بحدّ ذاتها، بل في فصل الابتكار عن القيم. فعندما يصبح الهدف الأسمى هو الكفاءة والسرعة والربحية، يُهمَّش الإنسان لصالح الأداء التقني. وعندما يُنظر إلى الابتكار بوصفه سباقًا تقنيًا بحتًا، يُختزل البعد الاجتماعي والأخلاقي، ويتحوّل التقدّم إلى عملية ميكانيكية تفتقر إلى المعنى. من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تعريف الابتكار، والانتقال من مفهوم الابتكار التقني الصرف إلى مفهوم الابتكار المُؤنسن.
الابتكار المُؤنسن هو ابتكار ينطلق من الإنسان ويعود إليه. لا يعادي التكنولوجيا، ولا يدعو إلى إبطاء التطوّر، بل يسعى إلى توجيهه ضمن إطار قيمي واضح. وهو يقوم على اعتبار الإنسان غاية لا وسيلة، وعلى الشراكة المتوازنة بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي بوصفها أساسًا لأي تقدّم مستدام. فالتكنولوجيا، مهما بلغت من تطوّر، تظل أداة فاقدة للوعي والضمير، ولا يمكنها أن تحلّ محلّ الحسّ الإنساني، أو الحكم الأخلاقي، أو القدرة على فهم التعقيدات الثقافية والاجتماعية.
في هذا السياق، ينبغي النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه وسيلة لتمكين الإنسان لا لإقصائه. ففي التعليم، يمكن للتكنولوجيا أن تدعم المعلّم عبر أدوات تعلّم مخصّصة وتحليل ذكي للاحتياجات، لكنها لا تستطيع أن تحلّ محلّ العلاقة التربوية القائمة على التفاعل والتوجيه وبناء القيم. وفي الإعلام، يمكن للأنظمة الذكية أن تساعد في تحليل البيانات والتحقّق من المعلومات، لكنها لا تستطيع أن تحلّ مكان الصحفي في فهم السياق، أو تقدير الأثر الاجتماعي للكلمة، أو تحمّل المسؤولية الأخلاقية للمحتوى المنشور.
ويؤدي الإعلام الوطني في هذا الإطار دورًا محوريًا في حماية الوعي العام، وصون السردية الوطنية، ومنع اختزال القضايا المجتمعية في معالجات خوارزمية مجتزأة أو موجّهة. فالإعلام، حين يُؤنسن استخدام التكنولوجيا، يصبح شريكًا في بناء وعي رقمي مسؤول، لا مجرّد وسيط تقني لنقل المحتوى.
غير أنّ تحقيق الابتكار المُؤنسن لا يقتصر على حسن استخدام التكنولوجيا، بل يتطلّب بناء وعي مجتمعي ناقد. وهنا يبرز الدور الأساسي للتربية والإعلام معًا. فالتربية مسؤولة عن إعداد أجيال قادرة على فهم التكنولوجيا بوصفها منظومة تحمل في طيّاتها قيَمًا وانحيازات، لا أداة محايدة. أما الإعلام، فعليه الانتقال من الترويج غير المشروط للابتكار إلى مساءلته، وفتح نقاش عام حول آثاره الاجتماعية والأخلاقية، وتبسيط القضايا التقنية بلغة تُعيد الإنسان إلى مركز الاهتمام.
إلى جانب ذلك، لا يمكن الحديث عن ابتكار مُؤنسن دون أطر أخلاقية وتشريعية واضحة تضبط استخدام التكنولوجيا وتحمي حقوق الأفراد. فغياب هذه الأطر يفتح المجال أمام هيمنة منطق السوق والخوارزميات على حساب العدالة، والخصوصية، والكرامة الإنسانية. ومن هنا، تصبح السياسات العامة جزءًا لا يتجزّأ من مشروع الأنسنة، عبر تشريعات تضمن أن يكون الابتكار في خدمة الصالح العام، لا مجرّد أداة للربح أو السيطرة.
في المحصّلة، إن التحدّي الحقيقي الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم لا يتمثّل في ابتكار تكنولوجيا أكثر تطوّرًا، بل في ابتكار أكثر إنسانية. فالتقدّم الحقيقي هو ذاك الذي يضع الإنسان في قلب السياسات الرقمية، ويربط الابتكار بالقيم، ويجعل من التكنولوجيا أداةً لخدمة الصالح العام. ومن هنا، تبرز مسؤولية المؤسسات التربوية والإعلامية، بالشراكة مع السياسات العامة، في ترسيخ نهج الابتكار المُؤنسن، بما يضمن مستقبلًا رقميًا يواكب العصر، ويحفظ في الوقت نفسه كرامة الإنسان وهويته ودوره الفاعل في المجتمع.











































































