اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٨ حزيران ٢٠٢٥
ريمون مارون - مركز الشرق الأوسط للأبحاث والدراسات الاستراتيجية - Meirss
الأنظمة العقائدية لا تنهار دفعة واحدة. إنها لا تُهزم في المعارك الكبرى، بل تموت ببطء، كجسد نُزِفَت روحه قبل دمه. إنها تنهار حين تفقد القدرة على الإقناع، وحين تتحول من وعود بالخلاص إلى عبء على الواقع، ومن مصدر إلهام إلى ذكرى قاتمة.لقد شهد التاريخ الحديث مشاهد متكررة لسقوط الأنظمة العقائدية: من الاتحاد السوفياتي الذي انهار من الداخل بعدما أفرغت الأيديولوجيا الشيوعية من مضمونها الاجتماعي، إلى ألمانيا النازية التي بُترت يدها العسكرية ولكن انهارت بفقدانها شرعية سرديتها الأخلاقية. حتى النظام البعثي في العراق سقط حين تحوّل إلى ظلّ دموي لا يحمل سوى الشعارات الفارغة. السقوط إذًا يبدأ حين تنفصل العقيدة عن الإنسان، وتفقد اللغة قدرتها على الحياة.- العقيدة كسلطة رمزية مطلقةليست الأنظمة العقائدية مجرّد مؤسسات، بل هي آلات لإنتاج المعنى والقداسة. تؤسّس شرعيتها من النصوص والتاريخ، لا من صناديق الاقتراع. قوتها نابعة من قدرتها على تحويل الطاعة إلى إيمان، والمعارضة إلى كفر. إنها تسكن في الشعارات، في الأناشيد، وفي تفاصيل الحياة اليومية، وتبني سلطة متجاوزة لحدود القانون.-إيران : من الثورة إلى الثيوقراطيةفي عام 1979، انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، لا كحركة سياسية فحسب، بل كتحوّل كوني في بنية السلطة. تأسست ولاية الفقيه كمعمار لاهوتي يجعل من المرشد الأعلى حاملًا لحقيقة دينية وسياسية مطلقة. لم تعد الدولة دولة، بل طيفًا لاهوتيًا يمارس سلطته باسم الله، فيما تحوّلت السياسة إلى طقس ديني، والمعارضة إلى خيانة للسماء.-الحرب الحالية : سقوط السردية تحت القصفاليوم، تخوض إيران حربًا مفتوحة مع إسرائيل، لا بالوكالة كما اعتادت، بل مواجهة مباشرة. قُتل قادة، ضُربت منشآت، وانكشفت عورات الردع. هذا التصعيد لم يفضح العجز العسكري فقط، بل كشف أيضًا تآكل السردية التي كانت تمنح هذه الحرب معناها: لم تعد حربًا لتحرير القدس، بل دفاعًا يائسًا عن منظومة تفقد شرعيتها.لسنوات، خاضت إيران معاركها خارج حدودها: حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الحوثيون في اليمن، والنظام السوري كحليف استراتيجي. اليوم، تبدو هذه الأذرع وكأنها تعلن التقاعد القسري. حزب الله فقد شرعيته في الشارع اللبناني، الأسد سقط وانكفأ، وأحمد الشرع في سوريا ينسج خيوط تقارب مع واشنطن وأوروبا، في قطيعة تامة مع طهران.
- التشظي من الداخل أنثروبولوجيا الانهيارالتمزق في إيران ليس فقط سياسيًا، بل أنثروبولوجيًا. الشارع الإيراني يرفض الصورة التي رسمتها الدولة منذ أربعة عقود. الأجيال الجديدة تسخر من رموز الثورة، والنساء يخضن معركة تحرير جسدية وروحية، فيما تنكسر قداسة الحرس الثوري في وعي شبابي يرى فيه جهاز قمع لا حماية. في هذه الحالة، تنهار العقيدة لا كهيكل بل كتصوّر شامل.- بين المعنى والانتحار الرمزيليست الحرب مع إسرائيل حربًا وجودية كما تروّج السلطة في طهران، بل انعكاسًا لوجود مأزوم. النظام الذي شيّد شرعيته على معركة الخارج، يجد نفسه مهزومًا في الداخل. لا معنى يُعبّئ الجماهير، ولا انتصارات تُخدّر الواقع. هكذا تموت العقيدة: حين لا تعود قادرة على التخييل، ولا على خلق سردية تحشد وتلهم. فحين تسقط الآلهة، لا يُسقطها العدو، بل يتوقف الناس عن رفع عيونهم نحو السماء.إيران اليوم لا تواجه إسرائيل فقط، بل تواجه لحظتها الأكثر حرجًا والتي هي مواجهة الذات. من طهران إلى الجنوب اللبناني، من دمشق إلى صنعاء، ينهار الحلم العقائدي، لا تحت نيران الأعداء، بل تحت ثقل الأسطورة التي لم تعد تُقنع أحدًا.إنها لحظة سقوط المعنى، لا سقوط النظام فحسب.