اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٦ أيار ٢٠٢٥
في حضرة العدل تستقيم المجالس، وتستوي القلوب، وتصفو العيون وهي تتأمل وجوه الذين أؤتمنوا على صون الدستور وحماية القانون. ومن هذا المنطلق، أحسنت كلية الحقوق في جامعة الحكمة صنعًا حين أضاءت على التحديات أمام السلطة القضائية وسبل معالجتها في مؤتمرها الأخير، بحضور ثلة من رجال العدالة والقانون.
استقلالية القضاء من المسلّمات، بل من المقدّسات، كما شددت على ذلك معظم الكلمات التي أُلقيت في هذا اللقاء الجامع، الذي حرص منظّموه على أن يكون في رحاب هذه الجامعة العريقة، وتحت رعاية وزير العدل الاستاذ عادل نصّار، ومشاركة نُخبة من رجالات القانون وأهل الاختصاص، الذين تناولوا هذا العنوان الشائك بصراحة تامة ومن دون مواربة أو التفاف.
عبارات رنّانة سُمعت في حفل الافتتاح، بعثت في النفوس نفحة من رجاء، وأيقظت فينا بصيص أمل في قضاء أرهقته المحسوبيات، وابتلعته المرجعيات السياسية والحزبية، وأوشك أن يُقضى عليه بفساد المافيات المتحكّمة بمصير الوطن وأبنائه. فالحديث عن استقلالية القضاء ليس ترفًا فكريًا، بل مدخلٌ أساس لإعادة الثقة بالوطن، ولإعادة المواطن إلى حضن وطنه. وقد رسم عميد كلية الحقوق، الدكتور شادي سعد، معالم هذه الرؤية بوضوح، مُبرزًا قدسيّة العدالة، ومُمهّدًا الطريق إلى قضاء نزيه، منصف، عصري، يتمتّع بالاستقلال المالي، لا يخاف ولا يخضع، يضمن الحقوق ويرتقي بالوطن من بين رماد الدمار وويلات الزمن الرديء.
من جانبه، أكّد رئيس جامعة الحكمة، البروفسور جورج نعمة، التلاقي الكامل مع العميد سعد في الإضاءة على أهميّة هذا المؤتمر الاستثنائي، وعلى ضرورة ترسيخ استقلالية السلطة القضائية، إذ لا يمكن بناء دولة القانون وضمان حقوق المواطن من دون قضاء حرّ ومحصّن.
أجدني أُصغي إلى كل متكلّم في هذا المؤتمر وكأنّه يبوح بمرآة قلبي. فهل ثمة كلام أسمى من أن يُقال في العدل والحق والحرّية واستقلال القاضي وصون كرامته وضمان عيش كريم له يليق برسالته؟ إنّ تحقيق هذه المعجزات هو السبيل إلى إعادة الثقة بهذا البلد، وإرساء العدالة الاجتماعية، والحدّ من نزيف الهجرة المتواصلة، التي تطال خيرة شبابنا وذوي الاختصاص والكفاءة.
ولا قيام لقضاء مستقلّ من دون محامين نذروا أنفسهم ليكونوا سدًّا منيعًا في وجه الظلم، وسندًا متينًا في مسيرة العدالة. فمَن أحرص من نقابة المحامين على المطالبة باستقلال القضاء وتحصينه، توصلًا إلى أحكام عادلة نزيهة وشفافة؟ من هنا كانت كلمة نقيب المحامين في بيروت، الذي اعتلى منبر الحكمة وألقى فينا عظة قانونية. كلمة النقيب فادي مصري، بارزة ولافتة، إذ ارتقت بخطابها إلى أبعاد وطنية، قانونية، بل وروحية. لم يغفل النقيب عن الإشارة إلى دور الروح القدس الفاعل في العالم، والكنيسة، فكم بالحري في ميدان العدل والقانون؟ فلا خوف على القضاء إن هبّت روح الحق تؤازره.
وقد استقى النقيب مصري من روحية بولس الرسول، فدعا القضاء إلى أن يخلع ثوب العتاقة، ويلبس ثوبًا جديدًا يليق بعصرنا (كولوسي 3: 9- 10)، وطرح ستّ وصايا تشكّل خارطة طريق للإصلاح: تحديث معهد الدروس القضائية، إلغاء المحاكم الاستثنائية، تحسين الوضع المالي والمادي للهيئات القضائية، إقرار قانون استقلالية القضاء، صون حق الدفاع وضمان اطلاع المحامين على الملفات، وأخيرًا حلّ أزمة السجون.
في ختام المؤتمر، أتى كلام راعيه، الوزير نصّار، ليؤكّد أن استقلالية القضاء ليست مفقودة، بل بحاجة إلى تحديث وتطوير وتحصين. وأثنى على صمود قضاة رغم العواصف، هؤلاء الذين يشكّلون الخميرة الصالحة لبناء مستقبل مشرق لهذا القطاع وحجر الزاوية، شرط ألّا يُستغلّ القضاء في بازار الانتخابات، وليس مسموحاً أيضا أن تؤثر السلطة التنفيذية على مسار القضاة وعملهم، فحماية القضاء تكون بتطبيق القانون لا بالتلاعب به.
من خرج من المؤتمر، عادت عينه إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية، ينتظر منهما مبادرة استثنائية تطلق ورشة إصلاحية حقيقية تُحصّن القضاء وتُبعد عنه سطوة التدخلات، قبل أن يتحوّل إلى قضاء وقدر لا حول له ولا قوة.
انطباعات إيجابية خرجت بها من مؤتمر الحكمة مشكورة، وأسمح لنفسي أن أقول: لا عودة للثقة الكاملة بالقضاء ما لم نرَ كبار الفاسدين خلف القضبان، ما لم تُصدر أحكام في جريمة المرفأ، ما لم تُستردّ أموال المودعين ويُحاسب السارقون، ما لم تتسارع المحاكمات لتفريغ السجون من المظلومين، ما لم تصدر الأحكام من دون استنسابية، ما لم يُحاسب مطلقو الرصاص الطائش بحزم، وتُشدّد الأحكام بحق تجّار المخدرات والمروّجين. لن تعود الثقة ما دام الصيف شتاءً والشتاء صيفًا في أروقة العدلية كما يتردد دائمًا. التزام القضاة بقسمهم، سيحملنا إلى الإيمان واليقين بأنه فعلًا العدل أساس الملك.
من هنا، يبقى أملنا معلّقًا بتلك الخميرة الصالحة من القضاة الذين يشكّلون حجر الزاوية في صرح استقلال القضاء، وحرص فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون على استقلالية القضاء، فخامته القاضي الأول والضامن الفعلي لحسن سير العدالة.
تذكّروا يا قضاة الأرض، أن الرَّبَّ يُحِبُّ الْعَدْلَ وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ. إِلَى الأَبَدِ يُحْفَظُونَ. أَمَّا نَسْلُ الأَشْرَارِ فَيَنْقَطِعُ. (مزمور 37: 28).