اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٤ تموز ٢٠٢٥
«أخي منصور، سررت جدا بقراءتي روايتك «جمول»، وسبب سروري هو نفسك الروائي الأصيل، وتمكّنك من اللغة بحيث إنك تستطيع التعبير عن أدق المشاعر الإنسانية وأحرج المواقف بسلاسة رائعة متفوّقة، وبقوالب متينة متتابعة، متضمنة صورا بالغة الروعة».
آلام الإضطهاد، كما أيامها، لا تنتهي، تظل عالقة في النفس. تغور حينا في قيعانها، ثم سرعان ما تظهر فجأة على السطح. لا أحد يستطيع أن يطمس الجريمة إلى الأبد، لا أحد يستطيع أن يمحو آثارها، يظل وشمها عالقا على الجلد، يقول حقيقتها، ويصف وقائعها، ويحدّث بآلامها وعذاباتها. ثم لا يلبث أن يحيلها قصيدة أو رواية، لأنه يحوّلها إلى رمز. فالرواية بمرموزها، مثل المعتقل بأوشامه، كلاهما يكملان بعضهما البعض، لدى المناضلين الذين وقعوا ضحية، تحت يد الطاغية والمحتل.
«منصور بديع أبو شقرا. جمول - معتقل الخيام. دار فواصل- الحمرا، بيروت. 2025: (230 ص.) تقريبا».
رواية، تحكي قصص وآلام وعذابات الجيل الأول من المناضلين الذي وجدوا أنفسهم فجأة في ساحات المقاومة، حين إندلعت الحرب في لبنان (13 نيسان العام 1975)، فساروا إليها، على غير هدى من أمرهم. لأنهم وجدوا أنفسهم فيها، شاء من شاء، وأبى من أبى.
«جمول: - أمي.
- نعم يا ولدي، أجابت الأم وهي تفتح بحرارة باب الغرفة التي يشغلها إبنها جمول، وقد وزع الأثاث... لا يخرج منها إلّا إضطرارا».
تحاول الرواية التي أبدعها الأديب منصور بديع أبو شقرا، أن تقول كل شيء، عن تلك الأيام التي طبعت لبنان - الصيف والمنتجع والنجعة، لبنان - الكتاب والجريدة والمطبعة، لبنان - السوق والسياحة، والساحل والجبل، بطابع الحرب. فخرجت الميليشيات من رحم الشوارع والمتاجر والمزارع، لتلاقي المخيمات على الساحة. فكانت الحرب التي لم تنتهِ فصولها بعد.
«ظلّ جمول هادئا.. فقد إعتاد قسوة الحياة... وهو الذي استشهد أبوه على محور «الشياح»».
الأستاذ منصور أبو شقرا، شهد جمول بنفسه، وشهد كذلك على صبرا وتل الزعتر ومعتقل أنصار والخيام. رأى بعينيه صور العذابات التي لا تزال تجرجره بأثماله إليها، كلما حاول نسيانها، يتذكّر عائلته: الأم والأخت والأخ والحبيبة. يتذكّر رحلة الموت بين أقبية التعذيب من شارع إلى شارع، ومن مدينة إلى مدينة. يتذكّر والده وكذا الرفاق والأصدقاء وخلّان الطفولة والرجولة، كيف ساقتهم الحرب إليها، كأنها قدرهم كما هي اليوم، والشيء بالشيء يُذكر.
«فرك جمول عينيه وأدار مفتاح الراديو... إنه الهجوم العاشر على المخيم في أسبوع».
رواية «جمول - معتقل الخيام»، توجز لنا الشريط السينمائي لتلك الحرب الذي كان لبنان، أول من وقع ضحيتها، بعد النكبة والنكسة. كان لبنان: «ثالث أثلاث في جمع أحد»، لأنه استيقظ باكرا على مثلث خلدة، فهي تسرد لنا الأحداث بتتابعها على لبنان طيلة عقد من الزمن: (1975-1985)، كان الروائي نفسه شاهدا عليها، بل مندرجا فيها.
«شاهد نفسه في الحلم مع بعض الشبان يرتدون بذلات كاكية ويحملون أسلحة رشاشة... شاهد جمول سحابة دخان ترتفع... بهيئة صبية سمراء... ابتسمت له ثم اختفت بخطف البرق».
مادة غزيرة للغاية، جعلها الراوي في سياقاتها، فبدت لنا كأنها تختصر حياة اللبنانيين جميعا، لا حياة فرد أسمه منصور، وأسماه «جمول»، يصف من خلاله بطولات ماضية، بطولات سطّرتها حركة المقاومة اللبنانية دفاعا عن لبنان وفلسطين، والتي كان إسمها: جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
«16 أيلول 1982: جورج حاوي، محسن إبراهيم
وضع جمول البيان متمتما... وقلب صحفا كانت تشير إلى عمليات للمقاومة في بيروت».
تقمّص الروائي منصور جبهة المقاومة اللبنانية، (جمول)، وصار يسرد لنا كل ما كان يحدث معه، أثناء تلك السنوات التي أقضت حياة اللبنانيين، حتى زواله في العام ألفين.
«اشتعل قلب «جمول» إيمانا بالحقيقة، بالنضال حتى الموت في سبيل الحرية».
لا ينسى الروائي المقاوم بطولات الرفاق والرفيقات. لا ينسى حماسة الأهل لطرد المحتل، ومعاقبة المتعاونين مع العدو. وكان كل شيء في المعركة يؤول إلى النصر الذي كان يصنعه بعينيه.
«أيام على إجتماع الشمل. كنا خلال ذلك الوقت ننام في العراء بإنتظار يوم العودة، حيث وزع جيش الإنقاذ... بعض الأغطية والفرش والطناجر».
منصور بديع أبو شقرا، ليس روائيا وحسب، بل بطلا مؤزّرا ومكلّلا، اندرج في المقاومة طفلا، وارتجل الحرب ارتجالا، وسار من قبو إلى قبو، وعلى رأسه إكليل من الشوك.
«أين الجديد في التعاطي مع الموضوع العربي وحركة التحرر العالمية؟».
بعض آلام المناضلين والمعذّبين، هي آلامه وعذاباته. وأما وطنه فإلى الإحتلال والقهر. فهو لا يأتيه النوم، إلّا بعد أن يسطّر ذكريات الموت اليومي الذي عاشه وسائر المناضلين، في أقبية المعتقلات. وهذه الرواية التي بين يدينا، ليست إلّا ظل المعتقل، أو ظل «جمول» نفسه. ألم يتوحّد منصور و«جمول» ومعتقل الخيام، في رواية واحدة؟!
«في باحة مدخل المستشفى استقبلته «سحر» باسمة، فكادت تغيّر شعوره وتقلبه رأسا على عقب. أحسّ بحرارتها وبدفئها».
ظل المعتقل، هي رواية منصور بديع أبو شقرا الذي أبدعها ذات يوم موقعة على بدنه، كما شقائق النعمان، من العام 1986. وها هو يوقّعها اليوم على ورق القلب، في «فواصل»، حين يعود لبنان من جديد، لتقمّص الحرب!
«لا همّ إن فقدت ذراعا يا «جمول» ما دمت متحدة بك يا حبيبي».
أستاذ في الجامعة اللبنانية