اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
نوال أبو حيدر
تُعدّ أزمة النظام المصرفي اللبناني من أخطر الأزمات التي شهدها لبنان في تاريخه الحديث، إذ لم تقتصر تداعياتها على الانهيار المالي فحسب، بل امتدّت لتصيب الثقة بالنظام الاقتصادي برمّته. فمنذ اندلاع الأزمة في عام 2019، تبيّن أن المنظومة المالية والمصرفية كانت قائمة على نموذج هشّ، ما أدّى إلى تراكم فجوات مالية هائلة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية والدولة. ومع تدهور الوضع النقدي وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، برزت أزمة نظامية غير مسبوقة كشفت عمق الخلل في بنية القطاع المصرفي وفي آليات الرقابة المالية.
وعلى الرغم من أنّ وزيري المال والاقتصاد، إلى جانب حاكم مصرف لبنان، يُقرّون اليوم بوجود أزمة نظامية تسبّبت في الانهيار المالي والمصرفي، يبقى السؤال الأساسي مطروحا: هل ما زالت المصارف اللبنانية تُبدي تحفّظاً حيال الاعتراف الكامل بحجم الخسائر ومسؤوليتها عنها؟
تشخيص الأزمة
من هذا المنطلق، يشرح الخبير الاقتصادي نسيب غبريل في حديث خاص لـ «اللواء» أن «الجهاز المصرفي يُجمع على أن الأزمة الراهنة هي أزمة نظامية لا تقتصر على القطاع المصرفي فحسب، بل تعود إلى انكماش النمو الاقتصادي بشكل حاد منذ عام 2019، تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، ارتفاع معدل التضخم ليتجاوز 200% حتى عام 2023، إضافة إلى شحّ السيولة في القطاع المصرفي».
وبناءً على ذلك، يعتبر أن «أزمة الثقة هذه ناجمة عن سببين أساسيين: سوء استخدام السلطة السياسية وسوء إدارة القطاع العام والمؤسسات العامة ذات الطابع التجاري».
ويتابع: «لا يُبدي الجهاز المصرفي أي تحفّظ في الاعتراف بأن الأزمة ذات طابع نظامي شامل، بل على العكس، يسعى إلى إقناع الأطراف الأخرى بضرورة الإقرار بهذه الحقيقة. فجميع المؤشرات الاقتصادية تدل بوضوح على أن الأزمة تتجاوز نطاق القطاع المصرفي، ولا يجب أن يسود الغموض أو التأويل في توصيفها وطبيعتها».
تراكم المسؤوليات
وفي سياق متصل، يوضح غبريل أن «الدولة هي التي تملك وتدير وتحتكر المؤسسات العامة ذات الطابع التجاري، وإذا نظرنا إلى السنوات الماضية وصولا إلى اليوم، نلاحظ وجود تراكمات كبيرة دفع ثمنها الاقتصاد اللبناني من خلال ضياع العديد من الفرص الاقتصادية، ارتفاع معدلات الفوائد، تراجع تدفّق رؤوس الأموال، إضافة إلى تأجيل الإصلاحات البنيوية الضرورية، تخفيض التصنيف الائتماني للبنان وتدهور صورته في الخارج».
ويضيف: «تتحمّل المصارف جزءا من المسؤولية، خصوصا لصمتها عند اندلاع الأزمة، في الوقت الذي ساد فيه حالة هلع بين المودعين الذين سارعوا إلى سحب ودائعهم وتحويل أموالهم إلى الخارج. إذ كان من المفترض على المصارف آنذاك أن تخرج إلى العلن وتوضح للرأي العام من هي الجهات التي حالت دون تطبيق قانون الكابيتال كونترول، ولماذا يوجد نحو 80 مليار دولار من الودائع المصرفية لدى مصرف لبنان، ولماذا تفتقر المصارف إلى السيولة الكافية».
وأمام هذه الوائع، يشدّد غبريل على أن «هذه المسؤولية لا تقتصر على المصارف وحدها، بل تشمل أيضا مصرف لبنان بوصفه السلطة النقدية، إلى جانب السلطة السياسية التي تتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية عن إدارة الأزمة وتأخير الحلول. أما اليوم، فإن الخروج من الأزمة يتطلّب تحمّل الجميع لمسؤولياتهم،
السلطة السياسية، والسلطة النقدية، والمصارف التجارية، في إطار رؤية موحّدة تستعيد الثقة وتعيد تحريك عجلة الاقتصاد الوطني».
طريق الإصلاح
أمام هذه المعطيات، يقول غبريل: «إذا أردنا أن نحاسب، فيجب أن نبدأ مع كل من ساهم في اتخاذ القرارات الخاطئة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم، من بينها زيادة النفقات من 6 مليارات و800 مليون دولار إلى 18 مليار دولار من دون موازنات بين عامي 2006 و2018، إدخال نحو 31 ألف شخص إلى القطاع العام، الترويج لسلسلة الرتب والرواتب من دون دراسة لتداعياتها، الإبقاء على ملف الكهرباء على حاله للاستفادة والمحسوبيات، وسلسلة من القرارات التي كبّدت الاقتصاد خسائر كبيرة».
ويتابع: «استعادة الثقة لا تبدأ بإجراءات تقنية تتعلّق بتحديد مصير الودائع أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو حتى تخفيض العجز في الموازنة العامة، بل من خلال إجراءات إصلاحية شاملة، لأن الإصلاح لا يتجزأ. وتشمل هذه الإصلاحات الجوانب الأمنية والسياسية عبر بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، وحصرية السلاح بيد السلطات الشرعية والجيش اللبناني، وحصر قرار الحرب والسلم بالسلطة التنفيذية، كما تشمل الجانب الدبلوماسي عبر ترميم العلاقات مع دول الخليج العربي، لا سيما المملكة العربية السعودية، واستكمال ترسيم الحدود البحرية والبرية مع سوريا».
أما على الصعيد الإداري، فيختم أنه «يتطلب الأمر إقفال أكثر من 90 مؤسسة عامة وهيئة وصندوقا، إلغاء آلاف الوظائف الوهمية، إنهاء احتكار وإدارة القطاع العام لقطاعات حيوية مثل الكهرباء والاتصالات والمواصلات والمرافئ والمطارات، إشراك شركات دولية متخصصة في الإدارة والاستثمار، إلى جانب مكافحة التهرب الضريبي والجمركي والحد من التهريب عبر الحدود في الاتجاهين. كذلك، لا بد من إصلاحات قضائية تقوم على تعزيز استقلالية القضاء ورفع كفاءته، وأخيرا محاربة اقتصاد الظل الذي يشمل المعاملات غير الشرعية من التهرب الضريبي إلى إنتاج الكابتاغون وتصدير الممنوعات، وذلك بهدف إزالة لبنان من اللائحة الرمادية ومن قائمة الدول عالية المخاطر لدى الاتحاد الأوروبي».
في خلاصة الأمر، بين اعتراف رسمي بوجود أزمة نظامية من جهة وتحفّظ مصرفي من جهة أخرى، يبقى المودعون الحلقة الأضعف، إذ ما زالت ودائعهم محجوزة منذ سنوات دون أفق واضح لاستعادتها. وفي ظل غياب رؤية وطنية موحّدة لخطة التعافي المالي، تتعمّق أزمة الثقة بين المواطن والقطاع المصرفي، فيما تزداد الضغوط الدولية لإقرار إصلاحات حقيقية تضع حدًّا لحالة المراوحة والإنكار.











































































