اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٢ أيار ٢٠٢٥
في عالم الفن، حيث تتلاقى الفكرة مع الإبداع، يبرز الفنان التشكيلي عادل قديح كأحد الأسماء التي أسهمت في تشكيل المشهد الفني المعاصر برؤية فريدة ومميّزة. تعكس أعماله التفاعل العميق مع التحوّلات الاجتماعية والثقافية، متسلّحاً بأدواته الخاصة للتعبير عن الألم والجمال، وعن الواقع الذي يتشابك مع خياله. يمتلك قديح أسلوباً فنياً يتراوح بين التجريد والتعبير، وهو في حواره هذا يقدّم لنا لمحات عن فلسفته الشخصية ورؤيته للعالم من خلال الألوان والخطوط. لا يقتصر حديثه على تفاصيل العمل الفني بقدر ما يستكشف الروح الإنسانية التي تقف خلف كل لوحة، ويجيب عن أسئلة وجودية تؤرق الفنان والمشاهد على حد سواء. في هذا الحوار، يكشف لنا قديح عن عملية تفكير عميقة وشجاعة تتناول التمرّد على الواقع والتفاعل مع الأبعاد النفسية والفلسفية للعمل الفني. تطرح كلماته التساؤلات التي تقودنا نحو أعماق فنه، وتدعونا للتأمّل في العلاقة بين الفن والحياة، بين المعاناة والإبداع، وبين الحقيقة والتعبير الرمزي. ومع الفنان عادل قديح أجريت هذا الحوار:
بين التجريد والتعبير، أين تتموضع روحك؟ وهل تراك أقرب للبوح أم للترميز؟
- بدّل الفنانون المحدثون مثل بيكاسو وبراك وماتيس ودالي وموته... أكثر من مرة في طريقة تعبيرهم الفني، ما يدلّ على أن التنقّل من موضع تعبيري إلى آخر ينتج عن تبدّلات في المجتمع والثقافة. فالفنان متفاعل مع التغيّرات، وخاصة في زمن الحرية الفنية. لذلك، سكنت روحي التجريد في مطالع مشواري الفني وكان ذلك تماهياً مع ما أسماه كاندنسكي بالضرورات الداخلية. الروح أيضاً تتنقل؛ فهي الآن تمزج البوح بالترميز وفقًا للتعبيرية الجديدة.
حين تبدأ برسم وجهٍ مشروخ، هل ترسم ملامحه أم تلتقط صداه الداخلي؟
- أرسم ملامحه لأعبّر عن صداه الداخلي. في تجارب فناني الحداثة وما بعدها، تبنّت هذه التجارب مسألة الخروج عن الواقع والتشويه للتعبير عن عالم امتلأ بالشروخ والاهتراء. كسر المحدثون الواقع لعدم رضاهم عنه. ونحن نعيش في منطقة مهتزّة ومتزلزلة اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً. كيف لنا أن نبدو كأننا نعيش خارج هذا الواقع؟ هذا ما أردت التعبير عنه في بعض أعمالي.
كيف يتكوّن اللون في داخلك؟ هل هو تجربة حسّية أم انفعال فلسفي؟
- إنه انفعال فلسفي بالتأكيد، لكن السؤال: هل ينفعل الإنسان فلسفياً دون معايشة التجربة الحسية؟ أليست خطانا تعبيراً عن معايشتنا للانفعالات الحسية؟
في أعمالك، يبدو الزمن متشظياً... هل تحاول عبر الفن استعادة ما تسرّب منك؟
- هل نعيش في أزمان متهادية أم أننا صدى لما يقال ويحصل وينفعل؟ إنها الأزمان المتشظية في كل اتجاه، ونحن ذرّات منها. لذلك ارتأيت أن أرسم وأنا أعيش في هذا الخضم. في كل عمل حكاية لحياة تتماهى مع هذا الزمن، لذلك أضع على سطحي التشكيلي حكاياتي وأزماني وأمكنتي، فأسرب إلى هذه السطوح ما يتبقّى من ذاكرة بصرية.
ماذا تمثّل الخطوط الملتوية التي تتكرر في لوحاتك؟ هل هي جراح، أم دروب نحو الذات؟
- هل نعيش في زمن سويّ غير ملتوي؟ الالتواءات تعبّر عن حالات متعددة، فهي مضادة للتساوي وتعبّر عن الارتياح والتناقض في نفس الوقت. هي أيضاً جراح ومحاولة تثبيت الذات، وهي دوامة للعصر.
لوحاتك تُظهر تمزّقاً إنسانياً عميقاً، هل ترسم ما تعانيه أم ما تتجاوزه؟
- في كل إجاباتي السابقة يتضح التمزّق الإنساني الذي يعتمل في ذاتي، لكنه أيضاً وجه من وجوه التجاوز نحو حياة سويّة. نحن دائماً نعاني.
كيف تتعامل مع لحظة الصمت بينك وبين اللوحة؟ وهل هناك لحظة تخونك فيها الريشة؟
- من قال إن الرسم هو من لحظات الصمت ولو بدأ كذلك؟ إنه حوار مكتوم بين الفكرة والخط واللون وبيني. وهو هروب نحو عالم أرسمه لكي أشفى منه. على الرغم من أن يدي تخونني أحياناً، إلّا أنها سرعان ما تتجاوب مع أفكاري لتروي حكاياتي.
الألوان في لوحاتك تكاد تصرخ... هل تبحث عن الجمال، أم عن الصدمة؟
- أليست الصدمة ملازمة للجمال؟ لا يمكنني أن أتجاوز مسألتي الجمال والإبداع على الرغم من محاولات جرت في التاريخ التشكيلي لإجراء هذا الفعل، لكنني مسكون بهذه الخاصية. ولأنني أعبّر، فلا مناص من التفاعل مع الصدمات.
هل تعتقد أن الفن قادر على ترميم الإنسان، أم أنه فقط يُظهر كسوره بوضوح؟
- الفن يشفي، لذلك يُستعمل في المستشفيات اليوم. هو يرمّم ما كسره الزمن.
في وجهك الإبداعي، أين تختبئ الذاكرة؟ وأين يتمركز الحنين؟
- في حالة الإبداع، تخزن الذاكرة حنيناً، ليتمركز في الروح والوجدان.
هل ترى أن الفنان مسؤول عن طرح الأسئلة، أم عن إيجاد إجابات؟
- الفنان ليس منظّراً سياسياً، مهمته ليست إيجاد إجابات وإلّا تحوّل إلى بيان سياسي. هو يميل أكثر إلى طرح الأسئلة. الفن ليس جماهيرياً بل هو ملك النخبة، لذلك تكثر اللوحة من طرح الأسئلة.
لو منحت لوحتك صوتاً، ماذا كانت لتقول؟
- كانت لتقول: كفى.
ماذا يخيفك أكثر: فراغ اللوحة، أم اكتمالها؟
- لا اكتمال في اللوحة، ولا ينتهي الفنان من لوحته. هو يتجاوزها في لحظة معينة لكي يرسم غيرها. الفراغات في اللوحة حالات ارتياح تحتاجها اللوحة، وأنا أتجاوز الخوف لكي أستمرّ بالرسم.
{ في زحمة العالم الرقمي والصور الجاهزة، كيف تحافظ على صدق اللون وخشونة الألم؟
- لم أدخل إلى عالم الذكاء الاصطناعي. العالم الرقمي يمكن أن يخدم الفنان، والصورة الجاهزة تساعدني أحياناً في توضيح ألواني. أتعامل مع هذه المعطيات كأنها وُجدت لمساعدتي وليس العكس. ما زال للوحة بريق صادق رغم ثورة الإلكترونيات.
متى تشعر أن اللوحة انتهت؟ وهل تودّ أحياناً ألا تنتهي؟
- كما قلت سابقاً: اللوحة لا تنتهي، وأنا أتوقف عن مشاغلتها لأتجاوزها نحو فكرة أخرى. بل إنني شغوف بلحظة النهاية التي لا تأتي.