اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٤ حزيران ٢٠٢٥
كتب حسن حيدر في 'الأخبار'
منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي – الأميركي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكما في كل استحقاق سابق أو أزمة داخلية، عاد رهان واشنطن، ومن خلفها تل أبيب، ليتمحور حول ما تسميانه «المعارضة الداخلية»، التي لطالما حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة استقطابها، عبر فرض عقوبات على أفراد وكيانات وقضاة وقادة إيرانيين، بذريعة «انتهاك حقوق المواطن الإيراني».
وفي كلّ تحرك احتجاجي تشهده الشوارع الإيرانية، لأسباب معيشية أو اقتصادية، كان يُسارع الأميركي إلى ركوب الموجة، محاولاً أن يكون «صوت» أي خطاب معارض، من خلال فتح خطوط الدعم التقني عبر الإنترنت، وتوفير البنية التحتية الإلكترونية، مطلقاً في الوقت نفسه العنان لأكثر من 150 قناة ناطقة بالفارسية تبثّ من الخارج، لاستضافة وجوه معارِضة.
هذا الرهان الأميركي الدائم على الشارع، فتح شهية الجانب الإسرائيلي، الذي راكم، خلال سنوات من تجنيد معارضين إيرانيين وغيرهم، خبرات وارتباطات وظّفها في التحضير للهجوم الأخير، كما في عمليات سابقة، فيما لمس تعاوناً كبيراً من بعض العناصر المعارضين، ما عزّز لديه قناعة بإمكانية استقطاب «الشريحة الرمادية» في أيّ تحرّك كبير ضدّ النظام، وهي الشريحة التي عوّل عليها بشكل كبير.
لكن، هنا تحديداً، ارتكب العدو خطأه الأكبر، عندما أوكل إلى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، مهمة مخاطبة الشعب الإيراني مباشرة، في وقت كانت فيه أشلاء النساء والأطفال لا تزال متناثرة على جدران الأبنية في طهران، ولم تكُن دماؤهم قد جفّت بعد، علماً أن الخطاب الموجّه إلى الشارع الإيراني لا يخرج عن سياق محاولة عزل الحكومة عن الشعب، وتصوير المشكلة على أنّها خلاف بين قيادة «قمعية» وشعب «مقهور».
وتجلّت هذه المقاربة من خلال الاستهداف الممنهج والمدروس لمقار ّ«قوات الدعم السريع»، ووحدات «مكافحة الشغب»، ومقارّ «الباسيج»، بالإضافة إلى استهداف المدخل الرئيسي لسجن «إوين» في شمال طهران، والذي يُعدّ أحد أكبر السجون في البلاد، ويضمّ سجناء على خلفيات جرمية جنائية ومدنية وجنح تراوِح بين جرائم قتل وتهريب مخدّرات واختلاس وغيرها، فضلاً عن وجود قسم للجنح الأمنية.
هكذا، يتضح أن العدو يسعى لشدّ عصب المعارضة، ومحاولة استقطابها، من خلال توجيه رسالة بأنّ هدف الهجمات على تلك المراكز هو إزاحة مراكز «قمع الداخل»، و«تحرير» الشعب الإيراني من نظامه، وفقاً لتوصيف قادة كيان الاحتلال، ومن بينهم نتنياهو الذي ذهب بعيداً في استحضار الرواية التوراتية، قائلاً إنّ «قوروش الكبير» حرّر اليهود من العبودية في بابل قبل 2500 عام، وحان الوقت لردّ الجميل للإيرانيين.
إلا أن هذه المحاولات لم تلقَ حتى الآن آذاناً صاغية لدى غالبية الإيرانيين، الذين تقاطروا لدعم خيار الدفاع عن بلادهم، التي تتعرّض لعدوان على خلفية برنامجها النووي أولاً، في ما يُعتبر ضربة في صميم «كبريائها» الوطني. وعلى عكس ما أراده العدو، شكّلت هذه الضربات لحظة شدّ عصب قومي لتوجيه ضربات إلى كيان الاحتلال حتى لو طال أمد الحرب أشهراً أو سنوات. وهكذا، باغت التحرّك الشعبي الواسع، والموقف التضامني غير المسبوق، الجميع، ولا سيما العدو، فيما نال إشادات متكرّرة من القيادة الإيرانية.
على أن التفاف الشعب الإيراني حول قيادته، وصموده في وجه الحرب المفروضة على إيران، لم يقطعا فقط الطريق على الرهان الخارجي، بل أسهما أيضاً في كشف العديد من الشبكات المتعاونة مع العدوّ، والتي كانت متخفّية داخل النسيج الاجتماعي، كما سهّل عملية الفرز، من خلال تبديد حالة الغموض إزاء بعض الشرائح الرمادية، أي التي اعتادت التزام الصمت في الاستحقاقات العامة. وبالتالي، ساهم هذا الأمر في تبديد ما كان يُعتبر تهديداً للداخل الإيراني، ولا سيّما مع الإقبال الكبير من قبل المواطنين على التطوّع لخدمة القوات المسلحة أو المساعدة في مجالات الإنقاذ والدعم الميداني والمدني والرعائي.
وجاء ذلك على الرغم من عدم وجود حالة طوارئ مدنية في إيران، وعدم وجود نقص في العديد وفرق الإنقاذ والإغاثة، ليظهّر التعاضد الشعبي الواسع، والذي شكّل مظلّة حماية للحكومة التي لم تتوقف رسائلها عن توجيه التحية والتقدير إلى شعبها بكامل أطيافه، في مقابل حملة إعلامية مركّزة هي أشبه بحرب تستهدف الوعي الجمعي، وتروّج لـ«عجز» إيران عن الردّ، وتضخّم حجم الهجوم الإسرائيلي، وتدّعي بأن المشروع النووي قد دُمّر، وبالتالي «لا جدوى من تقديم المزيد من الضحايا».
غير أنّ هذه الرواية، بدورها، سرعان ما سقطت؛ إذ إن الاستهدافات التي وُصفت إعلامياً بـ«ضربات على العلماء النوويين»، تكشف في جوهرها عن استراتيجية العدو لتصفية النخبة العلمية في البلاد. وبحسب ما تبيّن، عملت أجهزة العدو على جمع بيانات النخب الإيرانية المشاركة في المؤتمرات العلمية الدولية، ومنشوراتها في الدوريات المتخصّصة، ومشاركاتها في الأولمبيادات العلمية في شتّى المجالات، وقامت بتعقّب أفرادها إلى أماكن سكنهم وعملهم.
وهؤلاء العلماء، وإن لم يكونوا جزءاً من البرنامج النووي، إلّا أنّهم مثّلوا رصيداً علمياً قادراً على تقديم خدمات واستشارات علمية لهذا المشروع وغيره من المشاريع الصناعية، وخصوصاً في مجالات الصناعات الصاروخية والفضاء. كما أنهم لم يكونوا سابقاً ضمن دائرة الخطر داخلياً، وعاشوا حياتهم الطبيعية إلى أن استُهدفوا في منازلهم، ليلاً، ما يؤكد أنّ العدو ينفّذ تصفية ممنهجة لدماغ الدولة الإيرانية، لا لمجرد منشآتها. وهذا ما يدلّل على خطورة أبعاد الهجوم الإسرائيلي الأميركي – الغربي، على مقدّرات الجمهورية الإسلامية، والذي يمكن عدّه بمثابة حرب شاملة على وجودها ومؤسساتها وتطوّرها العلمي، وليس فقط مقدّراتها النووية والصاروخية.