اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
يعيش الشارع الزحلاوي منذ أسابيع على وقع تساؤلات يشوبها ألف خشية وخشية، وتخوّف مسموع في جلسات الأهالي الخاصة: من يشتري الأراضي في زحلة؟ ولماذا الآن؟ وما سرّ الصفقات العقارية التي تجري بهدوء لكن بوتيرة متسارعة ومتلاحقة على أطراف المدينة وفي قلبها؟ أسئلة فرضها تمدّد عقاري يوصف بـ «المنظّم»، ويطول آلاف الأمتار المربّعة من أراضي عاصمة البقاع، في مشهد بدأ يثير قلقًا عميقًا داخل الأوساط المحليّة.
فعلى مدار الأشهر القليلة الماضية، تمّ تسجيل سلسلة من الصفقات العقارية الضخمة التي تتجاوز بمجملها عشرات آلاف الأمتار، وتتوزّع بين منطقة تعنايل، وكسارة، والمعلقة، وصولًا إلى قلب أراضي زحلة. ويكاد الشاري في معظم هذه العمليات يكون شخصًا واحدًا أو من العائلة نفسها، وتحديدًا الصرّاف حسن دياب ونجله علي، المنحدرين من بلدة حزّرتا، والمقيمين حاليًا في جلالا.
ملايين الدولارات... دون مصدر واضح للأموال!من بين أبرز العمليات التي تمّ تسجيلها:
• شراء عقار تتجاوز مساحته 82 ألف متر مربّع في منطقة تعنايل، كان مملوكًا لعائلتي توما وصحناوي.
• صفقة مثيرة للجدل طاولت عقارًا في أراضي زحلة، كان مملوكًا لرجل الأعمال موسى فريجي، قبل أن يُعاد لاحقًا إلى مطرانية السريان، مع تحقيق أرباح غير مبرّرة بلغت نحو 350 ألف دولار.
• شراء عقار في منطقة كسارة بمساحة 3 آلاف متر مربع، كان عائدًا للدكتور أنطوان أبو سليمان.
• أما الصفقة الأحدث والأكثر إثارة للجدل، فكانت شراء عقار رقمه 696 في منطقة المعلقة داخل المدينة الصناعية، وتبلغ مساحته أكثر من 91 ألف متر مربّع، وتمّت الصفقة قبل أسبوع واحد فقط.
ويُجمع أهالي المدينة على أنّ هذه العمليات الشرائية تثير الريبة ليس فقط بسبب ضخامتها، بل أيضًا بسبب تزامنها مع مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على «حزب اللّه»، في توقيت بالغ الحساسية، سياسيًا وأمنيًا وديموغرافيًا.
ميزانية خفيةمصادر مطّلعة تحدّثت لـ «نداء الوطن» عن «ميزانية مرصودة تتجاوز الـ 50 مليون دولار مخصّصة لشراء عقارات إضافية في زحلة وجوارها، وسط غياب تامّ لأي إفصاح عن مصادر هذه الأموال، ما يفتح الباب أمام جملة من السيناريوات: هل نحن أمام عملية تبييض أموال؟ أم أن هناك تمويلًا سياسيًا مموّهًا مرتبطًا بجهات حزبية أو إقليمية؟
لكن، في بلد يختلط فيه المال بالسياسة والأمان بالانتباه لأدقّ وأصغر التفاصيل غرابةً، يبدو الحذر واجبًا.
تسلّل مدروس؟في علم السياسة، يُطلق مصطلح «إعادة تشكيل المجال الحيوي» لوصف هذا النوع من استراتيجيات التسلّل السياسي الناعم، التي لا تعتمد على السلاح أو الضجيج الإعلاميّ، بل على الزحف الصامت عبر ملكية الأرض.
في هذا النموذج، لا تُشترى الأراضي في مناطق عشوائية أو مبعثرة، بل في نقاط مدروسة ذات أهمية جغرافية وديموغرافية حسّاسة، غالبًا ما تُجاور مراكز قرار أو خطوط تماس طائفية.
تُستخدم هذه المقاربة في البيئات ما بعد النزاعات والحرب، حيث يصعب فرض السيطرة بالقوّة أو السلاح غير الشرعي، فيتمّ زرع الامتداد السياسي عبر العقار، واستبدال فكرة «السيطرة الأمنية العسكرية» بتملّك قانوني يُراكم «شرعية» ميدانية، تؤسّس لاحقًا لما يُسمّى في أدبيات النزاعات بـ «حزام النفوذ الموازي» وهذا الحزام أو الشريط لا يُرسم بالخرائط العامة، بل يُبنى عبر العائلات أو السجلات المنقولة، والمصالح المزروعة، والولاءات السياسية الجديدة التي تتحرّك في ظل استهتار الرقابة المؤسساتية للدولة واستخفاف المجتمع المحلي.
في هذا السياق، يتحوّل العقار إلى أداة لإنتاج توازنات جديدة، وتتحوّل المدينة المستهدفة – كما هي الحال في زحلة – إلى خاصرة رخوة، قابلة للطعن ولإعادة التشكيل وفق معادلات غير معلنة، لكن واضحة الملامح لمن يقرأ ما بين السطور.
الشكّ يطول «حزب اللّه»... لماذا؟بالنظر إلى حركة العقارات وأسماء المستفيدين والتوقيت، نكون أمام اتهام ضمني لـ «حزب اللّه» كتنظيم فقد السيطرة مع الجبهة الخارجية، ويميل حاليًا إلى التعويض الرمزي، وممارسة تضخم سلطوي في الداخل. العقار هنا لا يكون ملكيّة فحسب بل لغة حضور ومساحة قرار ضمن ما يُعرف بـ «عُقدة السيطرة بعد الانكفاء».لم يعُد «ترف المجاهرة بالهيمنة» ممكنًا... ذهبت أيام الاستعراض. وبدلًا من المواجهة المباشرة مع الخصوم، ينتقل الدهاء التخطيطي إلى الدوائر العقارية، وتُرسم وقائع جديدة بـ «الحبر العقاري» هذه المرة، لا بالدم.
تغيير ديموغرافي أم بناء نفوذ؟
يبقى التخوّف الأكبر، بحسب العديد من الشخصيات الزحلاوية، من أن يكون الهدف الأبعد لهذه الصفقات فرض تغيير ديموغرافي تدريجي في عاصمة البقاع الأبيّ، أو تثبيت قواعد لنفوذ جغرافي وانتخابي وأمني جديد في بيئة يقظة لا تحتمل التغيير القسري.
فزحلة، التي لطالما حافظت على طابعها التاريخي والثقافي والديموغرافي المميّز، تواجه اليوم ما يشبه التحدّي الصامت الذي لا يأتي عبر الجبهات أو الانتخابات، بل عبر مكاتب السجلّات العقارية وكُتّاب العدل.
وفي ظلّ غياب الهوية الجمعية، وغياب أيّ تدخل من قبل الدولة أو الجهات الرقابية لكشف مصدر الأموال التي تُصرف بطريقة ممنهجة، ورصد الجهات المستفيدة، يبقى السؤال الأكبر: هل تتحوّل زحلة إلى نموذج جديد للتمدّد الناعم، بعيدًا من صخب السلاح، ولكن بأهداف السيطرة نفسها؟