اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٤ تموز ٢٠٢٥
كتب يحيى دبوق في 'الأخبار'
مع تعثّر مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة، يجري الحديث عن خطّة تفصيلية معدّة لينفّذها الجيش الإسرائيلي فوراً، وتتضمّن شرحاً مسهباً لأهدافها وساحة عملياتها وحدودها، في ما يمثّل إشارات دالّة على إرادة التخويف أولاً، وليس بالضرورة على إرادة التنفيذ الفعلي، وإنْ كان التهويل لا يلغي احتمالات التنفيذ. ووفقاً لبعض المعلّقين، فإنّ تلك التهديدات تمثّل أداة ضغط دبلوماسي تهدف إلى دفع حركة «حماس» نحو تقديم تنازلات، وتالياً فرض الشروط الإسرائيلية على طاولة المفاوضات.
لكن، في الوقت ذاته، ثمة مَن يضفي على التهديد المشار إليه طابع الجدّية، انطلاقاً من أنه يتوافق مع إرادة قوى إسرائيلية وازنة ومؤثّرة في صنع القرار، ترى في الحرب فرصة لـ«تطهير» قطاع غزة من الفلسطينيين، مرّة واحدة وإلى الأبد. وبين هذا الرأي وذاك، تتحرّك إسرائيل الرسمية من دون وضع سقوف لأهدافها.
وبحسب التقارير العبرية التي نشطت كثيراً في الأيام الماضية، أعدّ الجيش الإسرائيلي خطّة عسكرية جديدة ستُفعّل في ساعات أو أيام من إعلان فشل المفاوضات؛ وتتضمّن تنفيذ عملية برّية واسعة نحو مركز مدينة غزة، وحصار المعاقل الرئيسية لـ«حماس» في مناطق من مثل مخيم جباليا ودير البلح وغيرهما، وكذلك إجلاء السكان المدنيّين من شمال القطاع ووسطه إلى جنوبه، ضمن مشروع يُعرف باسم «المدينة الخيامية» في منطقة رفح. ويُقدّر مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى أنّ هذه الخطة ستشكّل ضربة موجعة لـ«حماس»، لأنها تعني أنّ الجيش الإسرائيلي سيصل إلى قلب مدينة غزة، التي لا تزال تحافظ على حركة شبه طبيعية، رغم الحرب المستمرّة منذ ما يقرب من عامين.
و«المدينة الخيامية»، التي أُطلق عليها سابقاً اسم «المدينة الإنسانية»، ستكون عبارة عن منطقة تقع في رفح جنوب القطاع، يُنقل الفلسطينيون إليها بعيداً من مناطق القتال، أي شمال القطاع ووسطه. ومع ذلك، يرفض الجيش الإسرائيلي الفكرة، ويقول إنها ستورّطه في إدارة مباشرة للمدنيّين الفلسطينيّين، أي أنها ستتطلّب وجوداً عسكريّاً دائماً على الأرض، وهو ما يعمل الجيش على الحؤول دونه، بسبب تداعياته الخطيرة. إلّا أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه، يسرائيل كاتس، يصرّان على الفكرة ويطالبان بتنفيذها، بما يضمن لإسرائيل نفوذاً طويل الأمد في القطاع، يجري العمل عليه مع أو من دون اتفاق هدنة دائمة أو مؤقّتة.
تشير الوقائع إلى أنّ القيادة الإسرائيلية تعمل وفق أسلوب: «عندما نصل إلى الجسر نعبره»
على أنّ تلك الضغوط تأتي في وقت يواجه فيه الجيش الإسرائيلي تحدّيات داخلية كبيرة جدّاً، تثقل على مهامه، وفي مقدّمها النقص الحادّ في عديد القوات. وعلى هذه الخلفية، دُفع نحو تمديد الخدمة الإلزامية للجنود في الوحدات الخاصة والقتالية، من 32 شهراً إلى 44 شهراً (أربعة أعوام)، وهو ما جرى الإعلان عنه وإقراره، لكنه أرجئ بعد انتقادات واسعة من الجنود ومن الأحزاب المعارضة والجمهور الإسرائيلي.
ويؤشر ذلك إلى مشكلات بنيوية يعانيها الجيش الإسرائيلي، تؤثّر في توصياته المهنية للمستوى السياسي، ما يؤدّي بدوره إلى تصاعُد التوتّر بين الجانبين حول أولوية المفاوضات أو التصعيد. ويفضّل الجيش، كما يَظهر من المواقف الصادرة عن قياداته ومن تسريبات تجري تغذية الإعلام العبري بها، الاستمرار في العمليات المحدودة والمدروسة مع فحص دائم لإمكان إيجاد تسويات، بينما تضغط الحكومة لـ«حسم إستراتيجي»، حتى لو تطلّب ذلك خطوات مثيرة للجدل، ولا يقينيّة ومكلفة، علماً أنّ القرار يعود في نهاية المطاف إلى الحكومة ورئيسها الذي لا يزال يوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية والإمكانات، ليحدّد قراراته التي تبدو في معظمها تسويفية ومؤقّتة وغير حاسمة.
وبالعودة إلى الدوحة، حيث تنعقد المفاوضات غير المباشرة، يبدو أنّ الاتفاق المرتقب بين الطرفَين لن يؤدّي إلى نهاية الحرب، بل إلى إعادة ترتيبها، أقلّه من جهة إسرائيل، التي تريد أن تصل إلى تقليص أوراق الضغط لدى «حماس»، وتقليل قدرتها على التأثير، بينما تستمرّ هي في حربها في انتظار استسلام الفلسطينيّين، أو طردهم من قطاع غزة تماماً. في المقابل، تدرك «حماس» جيّداً أنّ تنازلاتها لن تخدم مصالح الشعب الفلسطيني، بل قد تقود إلى مزيد من الخسائر، بل وحتى إلى تهديد وجودي للقطاع وأهله. ولهذا، تصرّ الحركة على وقف الحرب بشكل كامل، أو على الأقل التوصّل إلى اتفاق يشمل ضمانات بوقف إطلاق النار بشكل دائم، وهو ما ترفضه القيادة الإسرائيلية رفضاً قاطعاً.
هكذا، يتّضح التعارض الكبير بين الجانبين: بالنسبة إلى إسرائيل، يعني النصر هزيمة «حماس» عسكرياً، وتغيير البنية الأمنيّة والسياسية في قطاع غزة، أو حتى إزالته من الخريطة السياسية، وتحويله إلى منطقة تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيّين، فيقتصر النصر على: الحفاظ على الهوية والوجود، والبقاء والصمود، ورفع الحصار، حتى وإن أدّى ذلك إلى دفع أثمان كبيرة جدّاً. على أن ممّا يزيد الأمر تعقيداً أنّ القيادة الإسرائيلية لا تضع سقوفاً واضحة ومباشرة لأهدافها، بل تعمل وفق أسلوب: «عندما نصل إلى الجسر نعبره»، أي مواصلة الحرب من دون هدف إستراتيجي واضح، والانتظار لرؤية ما تُنتجه التطورات على الأرض من مكاسب.