البحث عن خيار ثالث للخروج من المأزق وإعادة بناء الدولة

كتب العميد الركن نزار عبد القادر...

سؤال مشروع نطرحه بعد قرار الرئيس نبيه بري بعقد جلسة نيابية في الرابع عشر من الشهر الجاري مخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية: هل بدأ العد التنازلي للخروج من الازمة بانتخاب الرئيس العتيد؟ أم ان ما يجري لا يتعدى كونه مناورة سياسية يتبادل فيها محور المعارضة مع محور الممانعة لعبة التذاكي على الشعب اللبناني وعلى القوى الاقليمية والدولية، وخصوصاً بعد ان هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على معطلي الاستحقاق الرئاسي؟

لا يمكن لأحد انكار اهمية التطورات التي شهدتها الايام الاخيرة، والتي شكلت الخطوة الاولى لكسر الجليد وفك الحصار المحكم حول الاستحقاق الرئاسي، سواء لجهة نجاح القوى المسيحية الرئيسية من القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والكتائب في التوافق او «التقاطع» لتسمية الوزير السابق جهاد ازعور كمرشح، ينافس الوزير السابق سليمان فرنجية المرشح من قبل الثنائي الشيعي في السباق الرئاسي، او لجهة دفع قوى المعارضة وبعض المستقلين والتغييريين لحسم امرهم واعلان دعم انتخاب جهاد ازعور او لجهة حشر الرئيس بري وإجباره على تعيين موعد جديد لعقد جلسة انتخابية.

وما يؤكد ان الاستحقاق الرئاسي قد دخل في مخاض جديد يفتح الامل بإمكانية الخروج من المأزق السياسي القاتل، هي الرحلة التي قام بها البطريرك الراعي الى الفاتيكان واجتماعه بأمين سر دولة الفاتيكان، والى فرنسا واجتماعه بالرئيس ماكرون، والتفاهم على قيام البطريركية بالجهود والاتصالات اللازمة لتسهيل الحوار، وايجاد ارضية مشتركة بين محوري المعارضة والممانعة، والتي ترجمت بإيفاء المطران عبد الساتر للاجتماع بأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، ونسارع الى القول بأنه لم يكن من المتوقع اطلاقاً ان يصدر الدخان الابيض عن هذا الاجتماع باعلان التوافق الكامل على مرشح موحّد، يسهّل عملية الخروج بصورة مؤكدة وسريعة من الازمة الراهنة. ولكن وبالرغم من ان الدخان الابيض لم يخرج عن هذا الاجتماع الا انه شكّل خطوة جريئة وضرورية لبدء مسار الحوار، وبالتالي تخفيف حدة التوتر وحدة الخطاب السياسي الذي واجهنا به قيادات المقاومة اعلان ازعور كمرشح جدي لمواجهة فرنجية بعد اعلان ميشال معوض انسحابه كمرشح «مواجهة» للمعارضة.

في رأينا من المؤكد بأن جلسة الانتخاب التي دعا اليها الرئيس بري ستعقد في موعدها، ولكنه يبقى من المشكوك فيه ان تؤدي الى انتخاب جهاد ازعور بـ65 نائباً، وفق ما تسوّق له بعض الكتل المعارضة، ومعها معظم وسائل الاعلام والتي جهدت في عملياتها الاحصائية والاستقرائية لمواقف النواب وميولهم للاصطفاف الى جانب هذا المرشح او ذاك. لا يبدو اطلاقاً بأن الجلسة مرشحة لتكرار ما حدث في جلسة انتخاب الرئيس فرنجية التي جرت عام 1970 والتي فاز فيها على منافسه سركيس بصوت واحد. فالطرف الذي خسر المعركة كان فريق السلطة المدعوم من الشعبة الثانية، والتي كانت تشعر بثقة في تأمين الفوز لمرشحها، وهذا ما دفعها الى تأمين السير بالجلسة واستكمال العملية الانتخابية حتى نهايتها، والقبول على مضض شديد بخسارة مرشحها.

يختلف الوضع في هذه الانتخابات كلياً عما كان عليه عام 1970، حيث تتواجه القوى السياسية الداخلية، والمدعومة اقليمياً ودولياً، بين مشروعين:الاول المشروع السيادي مع كل ما يعني ذلك من مفاعيل وابعاد على المستويين الاقليمي والدولي، والثاني مشروع المقاومة والممانعة، المدعوم بسلاح حزب الله داخل لبنان مع كل اهدافه المعلنة بدعم مشروع الهيمنة الايرانية في لبنان وفي عدة دول عربية، او لجهة تشكيل قوة ايرانية رادعة وجاهزة في مواجهة اسرائيل وتهديداتها بمهاجمة المواقع النووية الايرانية.

من المتوقع في هذه الحالة ان يعمل الثنائي الشيعي وحلفاؤه على استيعاب الوضع من خلال تأجيل او منع حصول دورة اقتراع ثانية تؤمِّن للمرشح ازعور نيل 65 صوتاً، وبالتالي اعلانه كمرشح فائز في الانتخابات.

في رأينا يمكن تصوّر وضع عدة سيناريوهات او مخارج تفادياً لحشر حزب الله في الزاوية، ودفعه لقبول خسارة دوره وموقعه كقوة مهيمنة على الوضعين السياسي والامني في لبنان، لان القبول بهذه الخسارة لبنانياً سيعني قبول دور الحزب كقوة اقليمية اثبتت عن جدارتها في تحمّل مسؤوليات المهمات التي طلبتها منها ايران في سوريا والعراق واليمن، بالاضافة الى محاولات السيناريو الاول: يستمر حزب الله في المكابرة من خلال رفضه بالمطلق مبادرة البطريركة المارونية بالبحث عن ارض مشتركة تلتقي فيها قوى الممانعة مع المسيحيين في ظل شعار «لا غالب ولا مغلوب»، الذي رفعه البطريرك الراعي في عظة قداس يوم الاحد الماضي. والذي حملته زيارة مطران بيروت عبد الساتر الى السيد حسن نصر الله، في محاولة جادة لفتح باب الحوار لاختيار الرئيس العتيد القادر على ان يكون على مسافة واحدة من المحورين. لا يبدو من المعلومات التي رشحت عن اجتماع حارة حريك ان التصريحات التي صدرت عن قيادة كتلة الوفاء للمقاومة، بأن الزيارة ستؤدي فعلياً الى تبديد اجواء التوتر والرفض لتنازل الحزب عن مرشحه سليمان فرنجية، وبالتالي الذهاب الى مواجهة في الشارع.

السيناريو الثاني: اللجوء الى تكرار السيناريو الذي شهدناه في جلسات الانتخاب السابقة من خلال التصويت بالورقة البيضاء، كوسيلة للتغطية على معادلة رجحان كفة التصويت لصالح ازعور، وعلى حساب المرشح فرنجية، وبما يقوي حجة قوى المعارضة الى ضرورة الذهاب الى دورة ثانية للتصويت، مع ترجيح حصول ازعور على نتيجة النصف زائد واحد، وبالتالي اعلان فوزه في الرئاسة. من المحتمل ان يترافق هذا السيناريو مع حالة «هرج ومرج» داخل المجلس، تفتح الباب امام احتمال تأجيل انعقاد المجلس لأسابيع عديدة، نزولاً عند رغبة حزب الله باطالة فترة الفراغ، بدل التسليم بانتصار المعارضة من خلال انتخاب رئيس سيادي.

السيناريو الثالث: تنعقد الجلسة وتنتهي بدورة التصويت الاولى حيث ترفع مع دعوات للحوار بين المعسكرين للبحث عن مرشح ثالث، يؤدي حتماً الى استبعاد خيار المواجهة بين فرنجية وازعور، والذي سينتهي في حال الاصرار على السير به الى وجود غالب ومغلوب، مع كل ما يترتب على هذا الاحتمال من هواجس ومخاوف، ستؤدي حتماً في نهاية المطاف الى تكرار سيناريوم 7 ايار جديد.

في رأينا يبدو بأن البطريرك الراعي يعي دقة المرحلة، والمخاطر المترتبة على اجبار حزب الله على التسليم بخسارة هذه المعركة، التي يمكن ان تترتب عليها نتائج دراماتيكية على الداخل اللبناني، فالحزب اعلن مراراً وتكراراً بأنه لا يمكن التسليم بمرشح يمكن ان يطعن المقاومة في ظهرها. وليس هناك من مؤشر بأن الحزب سيرتاح لاحتمال فوز مرشح مثل ازعور بالرئاسة، والذي يرى فيه الحزب بأنه قد نشأ وترعرع ودخل على هذا العمل العام على يد قيادات معروفة بمناهضتها لمحور المقاومة.

من هنا يبدو بأن عملية الاصرار على السير قدماً في انتخاب ازعور بـ65 صوتاً بمثابة السير في حفل ألغام، قد يؤدي الى دفع البلاد نحو خيارات لا تحمد عقباها، واقلها القضاء على أي أمل في إمكانية ملء الفراغ الرئاسي والتحضير لتشكيل حكومة قادرة على انتشال البلد من المأزق الراهن قبل عدة سنوات. لا بد ان تعي القيادات الحكيمة وعلى رأسها البطريرك ضرورة عدم السير قدماً في الخيار الراهن، والذي سيؤدي حتماً الى كسر وعزل المكوّن الشيعي وبالتالي انتاج ازمة ميثاقية، قد تدفع الثنائي للمطالبة جهاراً بمؤتمر تأسيسي، يهدد صيغة الطائف، مع شبه استحالة توافر الفرص للتوافق على اي نظام بديل، يراعي صيغة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.

في ظل اجواء التوتر التي ستهيمن على الاجواء السياسية في لبنان خلال الاسابيع المقبلة، مع ما يترتب على ذلك من اخطار امنية، بات من الضرورة ان تصدر مبادرة جديدة عن اصدقاء لبنان (دول مؤتمر باريس)، وأن تجدّد دولة قطر مساعيها للبحث عن صيغة توافقية تقضي باختيار مرشح مستقل جديد، له دوره وتجربته في العمل المؤسساتي والوطني، ولا ميول سياسية لديه تجعله محسوباً على هذا الفريق،أو ذاك، ويمكن في مثل هذه الحالة ان تتوجه الانظار نحو اختيار قائد الجيش العماد جوزاف عون، مع كل ما يشكل هذا الاختيار من ضمانات لمختلف الاطراف السياسية بما فيها الثنائي الشيعي، ومحور الممانعة.

وهكذا يبقى السؤال: هل بلغنا حالة النضج الوطني للبحث عن خيار ثالث كخطوة آمنة على طريق الخروج من المأزق وإعادة بناء الدولة؟