"مدائن معلّقة"لياسين عدنان...إقرأ وتأمل ثم ابتسم على ما يجري

المغربي ياسين عدنان شاعر، أدركته مبكراً، كما يقول، 'حرفة' السفر وغواية الترحال. وهو في كتاب 'مدائن معلقة'، ومن خلال رحلاته شرقا وغربا، يثير كثيرا من الأسئلة، هي في الوقت ذاته أسئلة المثقفين والقراء. أسئلة من قبيل العلاقة بالآخر، والتعدد الحضاري، والترجمة، والحداثة، البعيدة أحيانا من بلدان عربية كثيرة. كذلك ضرورة الفن، واكتشاف العلاقة بين الماضي والحاضر، حتى يصل إلى سؤال الهويات وتصادم الحضارات أو تكاملها.

ويبدأ ياسين تدويناته العابرة، القصيرة أو الطويلة، من غرناطة في سنة 2001. وتنتهي تدوينات الكتاب في مدينته مراكش سنة 2022. أي أنها تدوينات تمتد عشرين سنة تقريبا. رافق في جولته بربوع الأندلس التي شرع بها في غرناطة ثم إشبيلية، الشاعر اللبناني صلاح ستيتية. وهنا لا بد أن نلتقي بشاعر الأندلس الأشهر لوركا، وقصر الحمراء، وعبد الرحمن الداخل، صقر قريش، كما سمّاه التاريخ، وكل ذلك الألق البعيد الذي ظل ماثلا في ربوع إسبانيا.

نعم، هي يوميات، وسيرة، وشعر، ومفارقات، وطرائف. وكل ذلك صيغ بروح حكائية سردية تدفع القارئ لمواصلة الغوص في الكتاب. وياسين دائما ما يفاجئنا بالأمكنة والشخوص والبلدان التي زارها، والمثقفين الذين رافقهم، والمواقف الطريفة المرافقة لقماش الرحلة.

والكتاب بمجمله يحمل روح الدعابة، والطرافة، والملاحظة الذكية، ليجد القارئ كل ذلك ما هو إلا تجسيداً حياً لكائن نشط، متوقد الحركة، لمّاح، لا يهدأ في محل مثل نجم ضال. وعليك بطنجة الشهيرة، والليالي الساحرة لهذه المدينة البحرية، ومحمد شكري الذي يسميه ياسين شحرور طنجة، وشباب الكتابة والفن والغناء. الشباب الحالمون بعبور مضيق جبل طارق عبر قوارب الموت نحو أوربا الساحرة.

وفي تدوينة الجزائر، استذكار لأول زيارة قام بها من أجل تسلم جائزة الشعر، حيث يكون اللقاء بالطاهر وطار، والحقبة المظلمة من تاريخ الجزائر. ومن هناك إلى الدنمارك ولقاء مع طلبة القسم العربي في جامعة كوبنهاغن بصحبة ابراهيم نصرالله وهدى بركات وجمانة حداد، ورافقت ذلك حوارات مع الطلبة عن أعمالهم الإبداعية. وكل مرة لا بد لياسين أن يعود إلى بلده المغرب، ليقارن ويستنبط الفروق، ويستلهم الحكمة من سفراته بين المدن والبلدان، بين الحاضر والماضي. يقفز في تدويناته من الحاضر إلى الماضي، أو من بلد إلى آخر رابطا سطوره بانثيال نثري عميق، أو التماعات شعرية تجعل لغة كتابه متناغمة على امتداد تدويناته. وهنا لا يمكن ربط كل ذلك إلا برحلة ابن بطوطة المثيرة بين البلدان، والمدن، في قرون خلت لكنها تغري الذهن بتتبع المعاناة البشرية في السفر ولقاء الأماكن والطعوم والنغمات.

ونعيش في مالمو السويدية، حيث مهرجان مالمو للشعر العربي والموسيقى المنعقد في سنة 2008، والاحتفال بصدور مجموعة مختارة من شعر نزار قباني باللغة السويدية، بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل شاعر الحب نزار قباني. وكان هناك الشعراء سعدي يوسف وكريم كاصد وصباح زوين الخراط وهالا محمد وجرجس شكري وطارق الطيب. مرة أخرى اللقاء مع الصورة الجاهزة للعرب لدى الآخر. أما 'بيروت 39' التي يعود إليها ياسين من زاوية نزول الشاعر أو الأديب عموما إلى الجمهور، فقد كانت ميزة هذه التجربة الاختلاط مع الجمهور في المقاهي، والجامعات، والشوارع، لتقديم خبز الشعر. واعتبر ياسين مبادرة 'بيروت 39' من المبادرات المهمة التي شهدها وأشاد بها. وطبعا لا يغيب عن الصورة بول شاؤول وعباس بيضون وبيار أبو صعب واسكندر حبش ومقهى تاء مربوطة والروشة والبحر الأبيض بلونه الأزرق. وكي يطارد السندباد في رحلاته العجيبة يحل ياسين في البصرة.

هنا البصرة وهنا مربد الشعر، ولقاء فوزي كريم، ثم استعادة رحلته الأولى إلى العراق العام 2000 مع شلة من المثقفين العراقيين والعرب بمناسبة مهرجان الجواهري في أربيل والسليمانية، ليغادر البصرة إلى بغداد ويعيش في الخيال تاريخ الرصافة، وابن الجهم، وعيون المها، وشارع الرشيد، والسعدون، وشربت حجي زبالة، وشارع المتنبي حيث يقف تحت تمثاله محدقا بدجلة. هي ليست سياحة في الأمكنة المغربية والعربية فقط، التي يضعنا في قلبها طوال سنين، بل يأخذنا ياسين أيضا إلى بقية العالم. السينما العالمية، ومهرجانات الشعر، والكتاب المشاهير، والحانات، وأسماء الشوارع، والأفلام المشاركة في مهرجان مراكش مثلا، أو في بلدان أخرى، وسمات المدن الأوربية التي مر بها عابرا. يعيش كل ذلك بنظرة فاحصة، وعينين تلتقطان المهم والمجدي الذي سيختفى مثل لمح البصر. وكأنه يدوّن روحه قبل أن تختفي، أو تختفي تلك المدن والبلدان والصور الساحرة التي رآها ذات يوم تنعكس في مياه محيط ما، أو بحر أجاج. أو كأنه يستهدي بشعر ابن عربي القائل: رأى البرق شرقيا فحنّ إلى الشرق/ ولو لاح غربيا لحنّ إلى الغرب.

وفي تدوينة أخرى ينتقل بنا إلى ليالي الشعر في القاهرة وأحمد عبد المعطي حجازي وأحمد الشهاوي وحلمي سالم، أمكنة روايات نجيب محفوظ والنيل، وتتبع معارك طه حسين ومقهى ريش وذلك التاريخ الممتد نحو الماضي ليصل فراعنة مصر وإهراماتها. ياسين عدنان يرسم في كتابه بانوراما ملونة لعقدين من السنين عاشها المغرب والدول العربية وبقية العالم في بحر متلاطم من الأحداث سياسية، وعلمية، وثقافية، وروحية. ولكنه في النهاية يعود إلى مُتكئه الأليف: طنجة ومكناس ومراكش والقنيطرة وأغادير والدار البيضاء وآسفي. يعود إلى تلك الأم التي صنعت منه كاتبا، وصحافيا نشطا، وشاعرا، وروائيا كتب روايته 'هوت ماروك' عن المدينة الحمراء التي نشأ وترعرع فيها. إنها مراكش الآسرة.

المفارقات، الغرائبية، مثال السفر مباشرة من أميركا إلى موريتانيا وعاصمتها نواكشوط، أو نمط الحياة بين بروكسل ومراكش، بنظرة خارقة للسطوح والواجهات تزيد من معرفة القارئ بأمور كثيرة يجهلها عن تقاليد وشخوص وأسماء ثقافية لامعة وجغرافية مدن معروفة. إنه كتاب معرفي. كتاب مشغول بدراية مثقف وناقد وشاعر ومفكر في أحوال هذا العالم. الكتاب هو، في توصيف مبتسر، شهادة حول عصر يمتد لعشرين سنة. بين رحيل وعودة نقرأ شيئا جديدا عن كل مكان يعاود زيارته. مثلا حين يعود إلى القاهرة مرة أخرى في تتبع طبقاتها وتواريخها الغائرة في الزمن. أماكن روايات نجيب محفوظ. بين القصرين. زقاق المدق. أحمد عبد الجواد، وزيطة صانع العاهات، والمغنين الأول، وأماكن الأفلام التي شاهدها، والمسلسلات التي جرت في مكان قاهري بامتياز مع أشهر الممثلات. عبّارات النيل، وحي الحسين، والسينما، وأدباء القاهرة ومبدعوها. تفاصيل عمان وبيروت والقاهرة وبغداد، لندن وباريس وبروكسل ونيويورك، عولج ذلك عبر رؤية موسوعية لعالمنا، يرويها ياسين بنباهة وذكاء المثقف الذي يدوّن التفاصيل أينما حل به المقام، وكأنها رحلة مكوكية فوق كرتنا الأرضية الزرقاء، أو جردة أنثروبولوجية للمكان، بشره وطبائعهم ومثقفيهم وفنانيهم وحاناتهم ومقاهيهم، فيعجن ياسين كل ذلك بمتعة سردية تجبر قارئ كتابه على المتابعة بشغف، من دون أن تفارق البسمة شفتيه. وهذا فن من فنون البراعة.