اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٤ أيار ٢٠٢٤
يحدّدون العلمانية أحيانا بانها رفضٌ للدين، والشعب العلماني هو تالياً خارج كل إيمان أو معتقد. وتبعاً لهذا التحديد، لا يؤمن الشعب العلماني بأي إله أو ملاك، ولا يَؤُمّ الكنائس أو الجوامع، ولا يمارس الطقوس والشعائر. عليه، يبدو العالم العلماني أَجوفَ عدميّاً لا أخلاقيّاً، وكأنه علبة فارغة ينبغي ملؤها بشيء ما.
قلّة هم من يتبنّون هذا التوصيف السلبي. وان مَن يعتبر نفسه علمانيا يرى الأمور خلاف ذلك. فالعلمانية في نظره، جد إيجابية ومنتشرة يؤطّرها قانون متماسك من القِيَم أكثر مما تحرّكها معارضة هذه الديانة أو تلك.
الى جانب اللاأدريين الذين يرفضون مقاربة الموضوع الديني ووجود الآلهة، من الثابت أن عددا كبيرا من القيم العلمانية يشاركه فيها كل تقليد ديني. وعلى نقيض بعض البدع الدينية التي تؤكّد حيازتها احتكار الحكمة والسعادة، ان احدى أهم ميزات الشعوب العلمانية انها لا تزعم امتلاكها هذا الاحتكار. لا يعتقد العلمانيون ان الحكمة والأخلاق تهبط على الناس في زمان ومكان محدَّدَين. يرون بالأحرى انها الارث الطبيعي للشر كافةً. لذا، ينبغي أن تبرز بعض القيم وتنتشر في العالم بأسره فتتشارك فيها المسيحية والإسلام والهندوسية والإلحاد!
يميل رجال الدين في معظم الأحيان الى تصنيف ناسهم في خانتَي: «ضد» و«مع». أما العلمانية فتخوّل الناس أن يكونوا متعددي الانتماء أو ذوي انتماءات هجينة. ففي استطاعة المرء أن يشهر إسلامه ويبتهل إلى الله ويتناول طعاماً حلالاً ويحجّ مكة المكرمة، ويكون عضواً فاضلاً في المجتمع، بشرط أن يراعي القوانين الأخلاقية العلمانية. وهذه القوانين يقبلها ملايين من المسلمين والمسيحيين والهندوسيين والملحدين، وهي تمجّد قيم الحق والتعاطف والمساواة والحرية والشجاعة والمسؤولية وهي ركن المؤسسات العلمية والديمقراطية الحديثة.
القانون العلماني، شأن جميع القوانين الأخلاقية هو مثال أعلى نتوق إليه وليس مجرّد واقع اجتماعي. فتماماً كما ان المجتمعات والمؤسسات المسيحية كثيرا ما تجنح عن المثال الأعلى المسيحي، كذلك المجتمعات والمؤسسات العلمانية كثيراً ما تخفق في تحقيق المثال الأعلى العلماني. ففرنسا القرون الوسطى مثلا نصّبت نفسها مملكة مسيحية، ولكنها مارست كل ضروب الأنشطة التي قلّما تمتّ إلى المسيحية بصلة. حسبنا هنا أن نستذكر اضطهاد الفلاحين في ذلك الحين. أما فرنسا الحديثة فقد نصّبت نفسها دولة علمانية، ولكن، منذ زمن روبسبيير - سفّاح الثورة الفرنسية - وقعت الدولة الفرنسية في فخوخ سوء فهم الحرية وخصوصا في ما هو من معاملة النساء.
هذا لا يعني ان الشعوب العلمانية - في فرنسا وسواها - تفتقر الى التعاطف الأخلاقي أو الالتزام الأخلاقي، وإنما يعني انه ليس من السهل أن يرتقي المرء إلى مثالٍ أعلى!
أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه